22 سبتمبر 2025
تسجيليخطئ من يتصور أن حالة العداء التي سادت العالم العربي تجاه الولايات المتحدة طوال العقود الماضية كانت من طرف واحد، فبشكل عام تميزت السياسة الخارجية للولايات المتحدة بتجاهل متعمد للشعوب العربية التي تخيلتها الإدارات الأمريكية المختلفة عائقا أمام مصالحها في المنطقة. وقد ترسخ هذا الاتجاه منذ بواكير الحرب الباردة عندما كان خبراء الشرق الأوسط في البيت الأبيض ينصحون صناع السياسة الأمريكية بعدم الانحياز إلى صف الجماهير العربية في أي أزمة، لأن هذه الجماهير كانت من وجهة نظرهم ذات ميول اشتراكية أو شيوعية، ويصعب استمالتها بأية طريقة إلى المعسكر الأمريكي. وحتى بعد أن انتهت الحرب الباردة وزال بريق الأفكار الاشتراكية، استمر نفس التحذير قائما ولكن هذه المرة بحجة أن الجماهير العربية صارت ذات ميول إسلامية.وهكذا كانت الجماهير العربية دوما على غير هوى الإدارات الأمريكية أو هكذا كانت تصور، مما أقام حاجزا بين هذه الشعوب وبين الإدارات الأمريكية التي كانت دوما تفضل أن تختزل دول المنطقة إلى مجموعة من القيادات، الذين يسهل من خلال التحالف معهم (أو الإطاحة بهم إذا لزم الأمر) التحكم في المنطقة بأكملها، فيما ظلت دوما بقية تفاصيل المشهد الاجتماعي وطبيعة الشعوب التي تتكون منها المجتمعات العربية غائبة عن اهتمامها. وقد ساعد على ترسيخ هذه الصورة الحكام العرب أنفسهم ممن كانوا يؤكدون لنظرائهم الأمريكيين أن السماح بنشر ديمقراطية حقيقية في بلدانهم سوف يفتح الباب أمام وصول تيارات راديكالية معادية للولايات المتحدة إلى سدة الحكم.مع وصول أوباما إلى البيت الأبيض تفاءل الكثيرون في الشارع العربي بإمكانية حدوث تغيير في السياسة الخارجية الأمريكية، ومن ثم في طبيعة التصور المتبادل بين الشعوب العربية وأمريكا، ولكن ما حدث في الواقع أن الإدارة الجديدة لم تنقح ولم تراجع استراتيجيات من سبقوها. فرغم الإعجاب الذي قوبل به انتخاب أوباما بين العرب الذين رأوا فيه وفي خطابه الذي ألقاه من القاهرة الكثير من المبشرات على بداية عهد جديد، إلا أنه قد تبين تدريجيا أن سياسات أوباما لا تختلف كثيرا عن سلفه. صحيح أن أوباما قد تخلى عن الطابع الرسالي الذي كان بوش الابن يحاول أن يقنع الناس أنه منذور للقيام به، والذي ترتب عليه أن قام بتوريط بلده في احتلال دولتين لتخليصهما من الاستبداد والإنعام عليهما بالديمقراطية كما كان يدعي، إلا أن سياسة الرئيس الجديد لم تخل من إشكاليات، ففي أول اختبار لأوباما استخدمت إدارته حق النقض (الفيتو) لمنع تمرير قرار لمجلس الأمن يعارض بناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية. كان هذا الموقف إيذانا مبكرا بأن ساكن البيت الأبيض الجديد لا يختلف عن سابقيه، فهو مثلهم سيستلهم قراراته من جماعات الضغط ولن يعبأ برد الفعل الشعبي في العالم العربي في شيء. بعد انطلاق ثورات الربيع العربي ظلت إدارة أوباما مترددة إزاء الانحياز لصف الجماهير العربية، فلم يكن قرار التضحية بالحلفاء الإقليميين من وزن بن علي ومبارك بالقرار السهل عليها، وهي التي قررت أن تسير على نهج سابقيها في مبادلة المصالح بالاستقرار، ولذا جاء رد فعلها في الحالتين بطيئا وغير فعال، فعلى مدار شهر من تطور الأحداث في تونس لم يخرج أوباما ليعلن تضامنه الصريح مع الشعب التونسي إلا في يوم هروب بن علي. ثم تكرر الأمر في مصر، حيث تطوعت وزيرة الخارجية الأمريكية، أثناء ذروة التظاهرات الشعبية، للإشادة بالحكومة المصرية ووصفها بالمستقرة. وبعد رحيل مبارك اضطرت الإدارة الأمريكية مرة أخرى أن تغير موقفها وخطابها لكي تعلن لجموع الشعب المصري أنها قد اختارت أن تقف في صفهم. ولكن في كلا الحالتين لم يكن للقرار الأمريكي من معنى أو أهمية، كما أن تباطؤها في دعم الجماهير كشف ترددها وسلبية موقفها مما كان يجري في العالم العربي. حاولت الإدارة الأمريكية أن تستعيد بعضا مما فقدته من ثقة الشعوب في المنطقة بعد نشوب الثورة في ليبيا، فسارعت بإعلان تأييدها للثوار، الذين اصطدموا بوحشية نظام القذافي وبالمرتزقة الذين جلبهم من الدول المجاورة. وأرادت أن تظهر بمظهر الدولة الكبرى صاحبة المسؤولية الأخلاقية عن حماية الشعوب. وبالفعل سعت لاستصدار قرار أممي يتيح لها حماية المدنيين، استخدمته بالتعاون مع حلف الناتو للإطاحة بالنظام الليبي. ولذا كانت الحالة الليبية حالة مثالية لإحداث تقارب عربي - أمريكي على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي أيضاً. فقد اتحدت الإرادة العربية الرسمية ممثلة في الجامعة العربية التي اتخذت موقفاً صريحا بإدانة الرئيس الليبي مع الإرادة السياسية الأمريكية التي كان يعنيها هي الأخرى إسقاط القذافي، وفي الوقت نفسه تنفس الكثيرون في الشارع العربي الصعداء لقيام أمريكا وحلفائها بتوفير غطاء جوي يحمي الثوار والمدنيين الليبيين، يستوي في ذلك من أيد التدخل ومن تحفظ عليه. وهكذا كان أمام الإدارة الأمريكية فرصة ذهبية لكي تفتح صفحة جديدة مع شعوب المنطقة بعد هذا الدور الذي بدا متجرداً (حتى وإن اختلط بمصالح نفطية لا جدال فيها).التقاعص الأمريكي الحالي عن مؤازرة المعارضة الشعبية ضد نظام الأسد في سوريا والتردد إزاء الإجابة عن التساؤل هل المسارعة في دعم الثوار السوريين سيفيد الإدارة الأمريكية أم سيضرها كما حدث في أعقاب تسليح المجاهدين الأفغان ضد السوفييت يعيد واشنطن إلى نقطة الصفر، ويثبت أن الأمريكيين ما زالوا يعانون من مشكلة قراءة الداخل الشعبي، فيما يهدد بفقدان الإدارة الأمريكية تلك الحالة الإيجابية الخاطفة التي أعقبت دورها في إنجاح الثورة الليبية. فالأمريكيون مازالوا يتساءلون عن هوية المعارضة ويتخوفون من إعطاء الضوء الأخضر لحلفائهم في المنطقة من أجل البدء في تسليحها خشية أن تكون هذه المعارضة محسوبة على تنظيم القاعدة. الأمر الذي يوحي بخضوع الأمريكيين لنفس سياسات الماضي القريب المسكونة بشبح المحافظة على الاستقرار والقاصرة عن فهم أن الشعوب أصبحت هي من يملك زمام التغيير في المرحلة الحالية. الخوف من الشعوب هو إذن آفة مزمنة في السياسة الخارجية الأمريكية لا تكاد تبرأ منها إلا وتنتكس من جديد، ولذا يتوقع أن تظل الولايات المتحدة متأرجحة بين خيارات غير محسومة إزاء ما يجري في سوريا، فهي لا تريد نظام الأسد ولكنها تخشى من أن تولد عملية الإطاحة به فراغا يملؤه خصوم لها، كما أنها عاجزة على معرفة هوية هؤلاء الخصوم، في دلالة على أن السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والتي تعدى عمرها الستين عاما مازالت غير قادرة على التعاطي مع المنطقة في صورتها المركبة والمعقدة، وأنها بحاجة دوماً إلى خيارات مسطحة ومباشرة لكي تختار من بينها، ولكن بعد توالي سقوط وكلاء واشنطن الإقليميين الواحد تلو الآخر لن تجد الإدارة الأمريكية بدا من التعامل مع المنطقة وفقا لطبيعتها الأصلية، والتي تشكل الجماهير الرقم الأهم فيها، وعليها أن تبحث لنفسها عن الصيغة المناسبة لذلك.