13 ديسمبر 2025
تسجيلفي زحمة المسابقة إلى الموت الذي هو الحياة بعينها حقيقة لمن يرد هذه الأوقات ممن باعوا أنفسهم لله وفداء للأوطان للخلاص من الظلم والطغيان، كما حدث في ثورات الشعوب، خاصة الشباب في تونس ومصر وليبيا واليمن وسواها وهم ممن نحسبهم شهداء عند الله، حيث يعتبر ابن مسعود رضي الله عنه أن موتهم خير موت. استقبلت تركيا والعالم العربي والإسلامي نبأ رحيل أحد أهم وأبرز أعلام هذا العصر في العلم والتخطيط والذكاء والسياسة الرجل الذي وهب نفسه لوطنه والإسلام والحق والحرية والعدالة المرحوم البروفيسور نجم الدين أربكان عن خمسة وثمانين عاما ونحسب أنه فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته بالمفهومين الخاص والعام ومن أتحفه الله بهذا مات وقد رضي عنه كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت عازما إثر عودتي من السفر أن أدبج مقالا عن ليبيا المنتصرة والممتحنة هذه الأيام ولكن الخبر فاجأني بوفاة من ننعاه كذلك للبشرية لما كنز في نفسه من الخير العميم في حين نرى هؤلاء الزعماء الهالكين حقيقة لم يتركوا في الغالب إلا الآثار السيئة عن ذكرهم ومن هنا نعلم مغزى كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. موت الصالح راحة لنفسه وموت الطالح راحة للناس، يأتي موت هذا الرجل المصلح العظيم والرجال قليل في هذه الأوقات المباركات التي نشهد فيها القلوب الصافية والتضحيات العظيمة وأحاديث الفداء والشهداء في صراع الحق مع الباطل، ومع من يا ترى؟ مع هؤلاء الحكام المستبدين الذين قررت الشعوب التخلص منهم. ويأتي انتقال أربكان إلى ربه تذكرة لنا جميعا بسنة الزوال فالخلود لله وحده وما نحن إلا ودائع في هذه الحياة على حد ما قال لبيد: وما المال والأهلون إلا ودائع ولابد يوما أن ترد الودائع ولكن من مات على شاكلة أربكان وشهدائنا الأبرار لم يموتوا حقيقة في الدنيا فإنما الميت ميت الأحياء كما قال المتنبي وكما قال الآخر: قد مات قوم وهم في الناس أحياء، وتأسيا برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حيث يقول اذكروا محاسن موتاكم فإنني مع حزني الكبير على فراق هذا الجبل الأشم والبحر الخضم الذي عرفناه أبا للأتراك الإسلاميين أي أتاتورك الإسلاميين إن جاز التعبير لما يحمله من قيم نبيلة وأفكار جليلة تمثل أمته خير تمثيل وكم سمعنا من الرجل العالم الصالح الكبير ومؤسس الحركة الإسلامية في تركيا الشيخ أمين سراج حفظه الله عن مآثر هذا الرجل العظيم، فإنني أجريت اتصالا هاتفيا مع الأصدقاء في اسطنبول وأفادوني بأن التليفزيون التركي قد نعاه وبدأ كبار المثقفين والمفكرين والساسة يثنون على حياته خيرا وتقدم رئيس الجمهورية التركية د. عبدالله غول بالتعزية لابنه الكبير فاتح، حيث كان المرحوم مولعا بالسلطان محمد الفاتح وقد نشأ نفسه وربى الآخرين للسيرورة على منهاجه رحمه الله وقد أشاد الرئيس بالأستاذ الكبير وأقر له بالأستاذية في خدمة تركيا وبالسياسة الممتازة التي أحسن التدبير فيها، كما تحدث عنه عبر التليفزيون وأرسل رسالة كتابية عن مناقبه الحميدة، وكذلك قام رئيس الوزراء السيد رجب طيب أردوغان بأن تحدث في التليفزيون وعزى الأمة بفقيدها الذي كان رجلا كبيرا صابرا مخلصا في خدمة الوطن وزار مركز حزب السعادة معزيا. أما رئيس البلدية في اسطنبول السيد مليح جكجك فقد قال: إننا تعلمنا الكثير الكثير من أستاذنا أربكان والحق يقال إنه سبب عظيم من الأسباب في تقدم تركيا الحالي أقول: ولا ريب أننا شعرنا منذ بداية السبعينيات والثمانينيات في القرن الماضي كيف أحبه الأتراك، حيث استطاع أن يحشد الطاقات ويجذب الشباب والشواب إلى فكره ومنهجه للنهوض بتركيا بعد سقوط الخلافة 3 مارس 1924م، ولا ريب أنه كان في معظم الميادين فارسا بطلا.. إننا في هذه الأيام نعيش ذكريات الماضي والحاضر بكل فخر واعتزاز فمن ليس له ماض ليس له حاضر ومن ليس له حاضر ليس له مستقبل كما قال غاندي وإننا لنرجو أن يتشكل هذا المستقبل على ما يرضي الحق والعدالة، حيث يرضي الله والشعوب. إن نجم الدين أربكان لم يكن رجلا عاديا في هذا العصر ولكنه كان لوذعيا ألمعيا فطنا ذكيا متسلحا بجانبي معادلة النجاح من حيث الإخلاص والاختصاص وقد انتقل كما يقول د. زياد أبو غنيمة من هندسة محركات الديزل التي تخصص فيها إلى درجة الأستاذية في هندسة الحركة الإسلامية الحديثة لتركيا المعاصرة حتى أصبح جزءا من تاريخ هذا البلد لا يفارقه وحتى قال الأتراك: إن أربكان هو أبو السبعة أرواح من كثرة ما دخل وخرج من محاكم وسجون وكثرة ما أسس أحزابا بلغ عددها في فترة زمنية قصيرة خمسة أحزاب إذ كلما أغلق العلمانيون له حزبا وختموه بالشمع الأحمر قام بتأسيس آخر ليسير بسياسة النمل الذي لا يكل ولا يمل إلى أن يحقق أهدافه القيمة نصرة للدين ودحضا لأعدائه وتلك الأحزاب هي حزب النظام الوطني عام 1970م ثم أصدرت محكمة أمن الدولة العليا قرارا بحله 1971م فعاد وأسس باسم أتباعه حزب السلامة الوطني عام 1972 وأصدر صحيفته الرسمية مللي غزته 1973م وبعدها حكمت المحكمة 24/2/1984 بحل الحزب وبسجن أربكان 4 سنوات ثم أسس حزب الرفاه الذي حصد 185 مقعدا في الانتخابات ديسمبر 1996، حيث تسلم أربكان رئاسة الوزراء مع شريكته في الحكم تانسو شيللر وفي 9/6/1997 تقدم المدعي العام بدعوى قضائية لحل الرفاه بدعوى تهمة العمل على تغيير النظام العلماني في تركيا ومنع أربكان وعدد من رجاله من ممارسة السياسة خمس سنوات، ثم أسس رجال الرفاه بعد ذلك حزب الفضيلة وخرج منه حزب السعادة الحالي وهكذا كان الرجل ينتقل من نصر إلى نصر ولا ييأس والعلمانيون والماسونيون والصهاينة يحسبون له ألف حساب لما له من القدرة الفائقة على استقطاب الجماهير، ثم ظهر حزب العدالة بقيادة تلميذه رجب طيب أردوغان وبقي حزب السعادة الآن على نشاطه، وهكذا يكون الرجال وهكذا يجب أن تستفيد الحركة الإسلامية وأحرار العالم اليوم في ثورات الشعوب والشباب من مثل سير النبلاء هؤلاء الذين هم من جملة شموس وأقمار هذا العالم. إن أربكان كان من نسل الأمراء السلاجقة وكان جده آخر وزراء ماليتهم فهو سليل السياسة والمنصب، وقد وصل أربكان إلى منصب رئيس اتحاد الغرف الصناعية عام 1967م، وخاض من مدينة قونية الإسلامية موطن العالم الرباني جلال الدين الرومي معاركه السياسية وانتخب من قبل نائبا عنها وكان يخطب ويقول: لابد أن نعيد تركيا إلى سيرتها الأولى، ثم أصبح نائبا لرئيس الوزراء بولاند أجاويد عام 1973 وقد بدأت جرائد الغرب تخوف من أربكان كصحيفة لوس أنجلوس تايمز وكذلك البريطانية الايكونومست والفرنسية لوفيجارو، حيث أبدت كلها أن الغرب ينظر بتشاؤم إلى وضع تركيا بسبب هذا الرجل! أما في دفاعه عن فلسطين ففي الاحتفال بيوم القدس العالمي في قونية عام 1980 حيث شارك في المظاهرة الكبرى أكثر من نصف مليون ينادون بالإسلام وتحرير فلسطين مما دفع العلمانيين للقيام بالانقلاب في اليوم التالي على يد الجنرال كنعان ايفيرين 7/9/1980 ليوقف العسكر المد الإسلامي واقتيد أربكان إلى السجن وكم دافع لأجل قطع العلاقات مع إسرائيل وقد عمل رحمه الله في حكمه على تحريم الماسونية والبدء في تشريع الحجاب وكان عربي الهوى يعمل على إعادة العلاقات مع العرب والمسلمين، خاصة في باب الاقتصاد، فهل يستفيد ثوار اليوم من هذا البدر النوراني؟.. رحمه الله رحمة واسعة.