15 سبتمبر 2025

تسجيل

مهمة مستحيلة لمرتزقة العقيد

28 فبراير 2011

ثورة الشعب أدركت معمر القذافي وهو في ذروة الثقة بالنفس، العالم الغربي تتزاحم حكوماته وشركاته على العقود والصفقات، ولم يعد يبدي أي اهتمام بطبيعة النظام، ولولا تقارير تصدر بين الحين والآخر عن منظمات حقوق الإنسان لأمكن الاقتناع بأن الليبيين متعايشون جيدا مع الحكم، بمعزل عن المشاعر، وطوال العقدين الماضيين نسبح القذافي علاقات خاصة مع حكومات القارة السمراء مما أكسبه بعدا إفريقيا مهما هو الذي أعانه على تحمل تداعيات "أزمة لوكيربي" والحصار الدولي الذي رافقها حتى خلع على نفسه لقب "ملك ملوك إفريقيا" لكن هذه العلاقات كانت تتوقف على الجرعات المالية التي يضخها بشكل دوري ودائم. في الوقت نفسه تراجعت الروابط العربية للنظام، لكنه حافظ على علاقة وثيقة مع جاريه المباشرين، مصر وتونس، وبالنسبة إلى الآخرين كانت ليبيا مكانا لاستيعاب بعض العمالة، لكن الملاحظ أن خصوماته السياسية تضاءلت في مؤشر إلى أنه لم يعد معنيا كي في السابق عندما كان يحول إضرابا ودكاكين سياسية وجيوشا من الانتهازيين الذين أسهموا في تضخيم الذات لدى القذافي، وكذلك في نسج زعامة "ثورية" وهمية تبين في النهاية أن أحداً سواه لم يكن يصدقها، بمن في ذلك أولئك المنتفعون، وقد تبين أيضا أنهم كانوا مجرد زبائن فيما اعتقد هو أنهم زعماء صغار يحجون إليه بصفته زعيمهم الأكبر وبصفتهم "ثوارا" مثله ومناضلين. لاشك أن الترهيب الدموي الذي استخدمه طوال الوقت في الداخل شكل صورة نمطية تعيسة للمواطن الليبي، فبدا مستكينا خانعا، بل وكأنه قبل واقتنع بالدور الذي فرضه عليه جلاده، ونسي تاريخه وتراثه ليعتبر كأن حياته إنما بدأت مع هذا الزعيم، كنت إذا ذهبت إلى ليبيا ترى أناسا في الشوارع، لكن يخيل إليك أنهم غائبون، إنهم هنا وليسوا هنا، لم تكن تسمع سوى أصوات أعوان النظام حين يهتفون للزعيم، غير أن الصدمة الحقيقية تأتي من واقع ومشهد لبلد نفطي، أي لديه موارد، ومع ذلك فإنه بقي في حال ما قبل النفط، لا أثر للثروة في التعليم أو الطبابة، لا تنمية مبرمجة، ولا رؤية للمستقبل، فهذه جماهيرية صمت ينبغي أن تغوص بعيدا في عمقها كي تتعرف إلى الحقيقة، وبالنسبة إلى الليبيين كانت جماهيرية صمت وصبر، ذاك أن الحقيقة التي انتظرت اثنتين وأربعين عاما هي التي انفجرت أخيراً في 27 فبراير ولم يعد بإمكان القذافي وأبنائه ومرتزقته أن يعيدوها إلى الصمت، فهذه مهمة مستحيلة تعصي على أي مرتزقة. رغم أن النظام كما كان يراه معارضوه المنقبون في الخارج، أبدى الكثير من اليقظة والصرامة في بناء سطوته وسيطرته، واستعان بأخطر الأجهزة والخبرات في المعسكر الاشتراكي السابق ثم في العالم الغربي، إلا أن انهياره السريع لا يزال لغزا، فإما أنه كان حلقات موصولة ما إن سقطت إحداها حتى انفرطت المنظومة كلها فوجد الحكم نفسه منذ السقوط المبكر لبنغازي محصورا في طرابلس، وإما أن الغضب والنقمة والاستياء نخرت أسس النظام في أن حدد الموعد حتى استجاب الجميع، وهو حصد في النهاية نتيجة تهميشه للجيش وإيثاره للميليشيات، ومن الواضح أن استخباراته لم تعمل حين احتاج إليها، كما أن اطمئنانه إلى سياسة "فرق تسد" التي اتبعها مع القبائل لم يأت لمصلحته حين أراد اختباره على الأرض، والأكيد أن زيادة اعتماده على المرتزقة الأفارقة كانت عمليا العنصر الذي أدى إلى خسارته، لأن العسكريين والقبائل وعموم الشعب اختصروا الموقف بعبارة ذات دلالة، القذافي يستأجر أفارقة ليقتلوا أولادنا وأهلنا. هذه أفكار أولية في محاولة تحليل السقوط البشع لهذا النظام الذي دهمته ثورة شعبه وهو لا يزال مالكا القوة النارية والمال، ومع ذلك لم يستطع أن يوقف العاصفة أو يقسم صفوف مواطنيه أو يقلب وجهة الأحداث، هناك أمران أشار إليهما المحللون الليبيون الذين احتلوا شاشات الفضائيات، أولهما أنهم فوجئوا بشجاعة مواطنيهم وتصميمهم واستعدادهم للتضحية والثاني أنهم فوجئوا أيضاً بأن هذا النظام الذين خشوه وهابوه طوال أربعة عقود بدا أشبه بقصر من ورق، وعندما ظهر سيف الإسلام القذافي في التلفزيون ليعلن خريطة طريق إلى تخريب البلد، إذا لم يستجب الشعب بوقف الاحتجاجات والمجيء إلى المؤتمر الشعبي العام لإقرار إصلاحات، فقد فاته في الوقت نفسه أنه كان يعلن أيضا أن نظام والده خسر معظم خياراته وأصبح مسبوقا بأشواط على المستوى الشعبي، وفيما شرع عسكريون ومسؤولون الانشقاق للانضمام إلى الشعب، بدا سيف الإسلام أنه حرص على الظهور قبل القذافي ليؤكد انشقاقه عن الكذبة التي غذاها وعاش عليها خلال الأعوام الأخيرة، وليعلن اأنه على العكس ينضم إلى والده الذي يقود المقاومة ضد ثورة الشعب. مع مضي الأيام وتكرار القذافي إطلالاته الخطابية الفاشلة والمخزية تهاوت الأحلام والأوهام، فـ"الحرب الأهلية" التي هدد بها الأب والابن لم تبد خيارا في متناولهما وكذلك مخاطبة الغرب لتنبيهه إلى "إمارة إسلامية" تنشأ في الشرق، أو إلى أن تنظيم القاعدة الإرهابي في ضوء اكتساب موطئ قدم في ليبيا، لم تنجح في إقناع أحد في عواصم الغرب، وحتى التخويف من استخدام القوة وحرق كل شيء بدا أيضاً فزاعة مجوفة، ورغم أن الوحش الجريح يمكن توقع كل أذى وتخريب منه إلا أنه يمكن أن يرتكب المزيد من القتل لكن من دون أن يغير الواقع الجديد الذي فرض نفسه عليه. إلى الاهتراء والتآكل اللذين انفضحا في بنية النظام، جاءت المكابرة والغرور لتقفلا الدائرة عليه إلى حد سد النوافذ لإيجاد مخارج داخلية أو حتى خارجية، لذلك انحصر مصير القذافي بين الموت قتلا أو السجن والمحاكمة سواء في الداخل أو في الخارج، فهذا النمط المنحط من الحكام لم يشأ أن يتوارى إلا وهو يوجه أسوأ الأوصاف والشتائم لأبناء شعبه، لعله، في الواقع، كان ينعت نفسه أولاً وعسى أن يعجل جنونه بنهايته لينزاح الكابوس عن ليبيا إلى غير رجعة.