04 نوفمبر 2025
تسجيلشكّلت الانتفاضات الشعبية في العديد من الدول العربية امتحانا غير للمجتمع الدولي والمؤسسات الدولية سواء التابعة للأمم المتحدة أو المنظمات الإقليمية. وقد سقط الغرب في امتحان القيم المتصلة بالديمقراطية والحريات عندما وقف إلى جانب الحكام في تونس ومصر على اعتبار أنها فورات شعبية عابرة مؤقتة لن تغيّر شيئا، لكن بعدما بان له أنها أوسع من مجرد احتجاج وتكاد تصل إلى مرتبة الثورات، تدخّل موحيا ومتحايلا إلى أنه يدعم الإصلاح والديمقراطية ويقف إلى جانب رغبات ومطالب الشعوب. ومع أن نسبة الأمية لا تزال عالية في العالم العربي لكن الإنسان العربي البسيط والمظلوم لم يعد غبيا وجاهلا بما يجري وبحقيقة المواقف والسياسات. اليوم تمر الثورتان التونسية والمصرية في مرحلة ترقب وقلق: هل يستمر التقدم والتغيير أم أنه سيحدث ضمنا انقلاب مضاد يضمن استمرار السياسات القديمة بديكور جديد؟ تقدمت المصالح السياسية والاقتصادية على قيم حقوق الإنسان والديمقراطية، والمثال الليبي كان الأبرز الذي عكس فضيحة منظومة القيم الغربية الزائفة. وقف الغرب يتفرج على مذبحة معمر القذافي ضد الشعب الأعزل، أربعون سنة من ظلمه للشعب لم تكفه ليقول إنه سيبيد الشعب حتى آخر رجل وامرأة وطفل. واكتفت الأمم المتحدة ببيان هزيل لمجلس الأمن واكتفت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بالقول إن ما يجري في ليبيا أمر غير مقبول. إلى هنا وكفى الله المؤمنين شر القتال. لا عقوبات ولا حظر طيران ليبيا كما فعل المجتمع الدولي مع نظام صدام حسين بعد احتلال الكويت، كانت رسالة ليواصل القذافي مذبحته المفتوحة دون حسيب أو رقيب. تركيا في هذا الإطار تمثل نموذجا خاصا. منذ اللحظات الأولى للثورة المصرية أدلى وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو بتصريح دعا فيه الرئيس حسني مبارك إلى تلبية "المطالب المحقة" للشعب. وبعد يومين كان رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان يطلق خطابه الشهير أمام نواب حزبه داعيا مبارك إلى التنحي والتفكير بنهايته في مترين مربعين هما القبر وبالمحاسبة التي سيتولاها الله معه. حينها قلنا إن هذا تحوّل في طريقة تعاطي أنقرة مع دول كبيرة إقليمية وحساسة مثل مصر بما يفتح عليها باب التساؤل بأنها تتدخل في الشأن الداخلي للدول المجاورة مثل مصر.وهو ما يجرّ هذه الدول بدورها إلى التدخل في الشأن الداخلي لتركيا. وما لبث أردوغان أن أكد موقفه في التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بالقول عشية زيارته إلى سوريا لوضع حجر الأساس لسد العاصي المشترك بقوله إن ما يجري في مصر يخص تركيا وما يجري في اليمن يخص تركيا وما يجري في تونس يخص تركيا كما أن ما يجري في فلسطين يخص تركيا التي لا يمكن أن تكتفي بالتفرج. يبدو أن عبارة "عدم التفرج من المنصة والنزول إلى الملعب لتكون لاعبا مشاركا " باتت أثيرة وعزيزة على المسؤولين الأتراك، وهم بالطبع أحرار في اتباع النهج الذي يريدونه في التعامل مع الآخرين، لكن القاعدة عندها يجب أن تكون واحدة ولا تتصف بازدواجية المعايير. دار لغط كبير داخل تركيا نفسها حول الموقف من الثورة المشتعلة ضد القذافي والمجازر هناك ضد المدنيين. اتسم الموقف التركي منذ البداية بحذر شديد.لم تخرج أي تصريحات رسمية، ثم توالت المواقف بأن إجلاء الرعايا الأتراك من ليبيا هي أولوية السياسة الخارجية التركية. وإذ خرجت أصوات تركية تدعو أردوغان لموقف حازم من القذافي قال أردوغان، أيضاً أمام اجتماع لنواب حزبه، إن على القذافي التجاوب مع مطالب الشعب وعدم استخدام العنف، لكنه قال إن مواقف تركيا تحددها المصالح الوطنية لتركيا قبل أي شيء آخر. وقعت أنقرة بين فكي كماشة المصالح الوطنية والمواقف المبدئية. من جهة هناك أكثر من 25 ألف مواطن تركي في ليبيا يمكن أن يتعرضوا للخطر والقتل على يد القذافي، وهناك استثمارات تركية في ليبيا تقدر بـ 5 مليارات دولار كما أن حجم التجارة بين البلدين يقارب المليارين ونصف المليار دولار، وأي موقف منتقد للقذافي سيعرض كل هذه المصالح للخطر خصوصا إذا بقي القذافي في الحكم. لذا، وخلافا لموقفهم الحاسم من حسني مبارك، لم يتخذ المسؤولون الأتراك مواقف "مبدئية" وواضحة من المجازر في ليبيا وقالوا إن الأولوية الآن هي لإنقاذ حياة الرعايا الأتراك هناك.وقال أردوغان إن سياسة تركيا لا تقوم "على الواقف" أي ليست ارتجالية وهو يعرف متى وكيف يصرّح. نعم في مواجهة رجل مجرم مثل معمر القذافي لا يمكن أن يكون الموقف بطولة إذا كانت نتيجته قتل آلاف الأتراك هناك، وفي هذا السياق جاء رفض أردوغان إعادة جائزة القذافي العالمية التي أعطاها له قبل أشهر بذريعة أنه نالها لمواقفه من القضية الفلسطينية. وأردوغان محق لأنه إذا أعاد الجائزة وقع الغضب القذافي على الرعايا الأتراك. نعم يتبع الأتراك سياسة معقولة وواقعية.لكنها في الوقت نفسه لا تخلو من تساؤلات حول مدى المسافة بين المواقف المبدئية والمصالح الوطنية والتوازنات الدولية.