14 سبتمبر 2025
تسجيليرجع فشل الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي في قدر كبير منه إلى عدم حسم العلاقة بين مفهومي التحرر السياسي والعلمنة. فقد استهدفت العديد من القوى المدنية (العلمانية) التي شاركت في الثورة تحررا سياسيا وتحررا من الدين في الوقت ذاته، وبناء عليه فقد كان فوز التيار الإسلامي بنصيب الأسد في الاستحقاقات الانتخابية التي تلت الموجة الأولى من الثورات عاملاً أساسيا في انقلاب شركاء الثورة على بعضهم البعض، فمن شاركوا في الثورة امتلكوا تصورات مختلفة بخصوص الدولة المنشودة والنظام السياسي المستهدف، وكانت العلاقة بين الديني والسياسي في القلب من هذه الاختلافات، الأمر الذي انتهى بعاصفة من الاتهامات المتبادلة بين الأطراف التي جمعت بينها "الثورة على الاستبداد" ثم فرقت بينها "تصورات إدارة مجتمع ما بعد الثورة". ولا يستبعد أن تتجدد هذه الاتهامات مرة ثانية إذا ما أحرزت الموجة الحالية من الاحتجاجات الجماهيرية نجاحا، ولو جزئيا. فالأطراف العلمانية تثور وفي ذهنها تصور منبثق عن التصور الغربي، مفاده أن الدولة هي الكل، وأن الدين هو الجزء، ولا يمكن للجزء أن يسمو على الكل، بل إن بقاءه رهن ببقاء الكل. ويتم هنا تمثل العلاقة بين الجسد والأعضاء، فإذا انعدم الجسد فلا معنى من بقاء اليد أو الساق، أما إذا انعدمت اليد أو الساق فمن الممكن أن يظل الجسد قائما.والدولة وفق هذا التصور وليدة الطبيعة المادية، وهذه الطبيعة نظام منغلق على ذاته، متكامل ومتجانس، لا توجد بداخله تناقضات تستلزم استدعاء قوى خارقة للطبيعة (مثل الدين) لحلها، فالطبيعة تحوي قوانينها الملازمة لها، والتي يمكن للفكر الإنساني أن يكتشفها، ومتى كشفها أمكن له أن يستفيد منها لتحقيق سعادته الدنيوية. ولما كانت الدولة ظاهرة طبيعية، فمن المفترض ألا ينشأ بينها وبين الفرد الطبيعي أي نوع من أنواع التناقض، وإذا ما حدث مثل هذا التناقض فإنه يكون بفعل أخطاء إنسانية، كأن ينشأ الاستبداد بفعل الخروج على حكم الطبيعة وقوانينها، وليس بفعل الانحراف عن تشريع غيبي المصدر، متجاوز لحدود وقدرات عالم البشر.الدولة وفق هذا التصور الوضعي تدعي المقدرة على الكمال في ذاتها وعلى تحقيق الحياة المكتملة للأفراد بمعزل عن الدين. ولا يملك الدين وفق هذا التصور إلا أن يقبع في إطار الترتيبات الداخلية للدولة وإلا واجه خطر الاستبعاد تماماً. والتماسك السياسي وفق التصور العلماني لا يتحقق بفضل اعتناق الدولة لدين معين، ومن ثم لا يحق لأي دين أن يسعى لنشر مذهبه أو معتقده في إطار الدولة، فبعد أن كان هذا يؤدي إلى المزيد من التماسك في الماضي، أصبح ينظر إلى تمدد الظاهرة الدينية على أنه يحمل تهديدا في الوقت الحاضر.وفي إطار التصور العلماني، تنهض الدولة الحديثة على أساس من القوة المادية، ويمكنها أن توظف الدين لزيادة قوتها تلك، وعلى العكس لا يمكن للدين أن يشاركها لا في قوتها ولا في السعي لكسب قوة خاصة به، فعلى الدين أن يظل تابعاً، وأن يتأقلم مع الأوضاع التي تفرضها الدولة، بحيث تصير المؤسسة الدينية مؤسسة وطنية، تتبع الدولة وتلتزم بقواعدها السياسية. وبعيدا عن عالم الأفكار وبالرجوع إلى أرض الواقع، نجد أن الدولة وفقا للتصور العلماني قد حددت لنفسها منذ اللحظة الأولى لنشأتها موقفا صارما من الدين. فقد نص صلح وستفاليا الشهير، والذي يؤرخ به كبداية للدولة القومية الحديثة، نص على أن تمتنع الحكومات الموقعة عليه عن دعم من يدينون بدينها في النزاعات التي يخوضونها. كما ألزم الاعتراف بالسلطة الإقليمية الملوك بعدم التدخل في شؤون الآخرين، الأمر الذي مكن الدولة الحديثة من أن تستقل بشؤونها وهي في مأمن من تدخل القوى الخارجية فيها بحجج دينية. وقد نجح نظام الدولة القومية في جعل الاستقرار هو الغاية النهائية، وتمت التضحية بالأهداف الدينية، التي كانت في وقت من الأوقات المحرك الأساسي لسياسات الدول.من ناحية أخرى مكنت مفاهيم السيادة الدولة الحديثة من فرض التطابق الثقافي والسياسي على مواطنيها بطريقة أكثر فاعلية، حيث أصبح من حق الدولة سياديا أن تفرض نمطا ثقافيا وطابعا قوميا في كل زاوية من زوايا إقليمها الجغرافي. وهو ما أدى إلى تراجع قدرة الدين أو بالأحرى قدرة من يتصدون للدعوة الدينية على إحداث أي تأثير داخلي، اللهم إلا في المساحة التي تسمح لهم الدولة بها.بهذا المعنى فإن التصور العلماني لا يقبل من الدين إلا أن يتحول إلى نظير علماني، يمكن استيعابه داخل بنى ومؤسسات الدولة القومية، بحيث يصبح عاملاً من عوامل استقرار الدولة، أو دعم شرعية القائمين عليها، وذلك عن طريق تطويع أحكامه وشرائعه بما يتفق مع شرائع الدولة وأحكامها.فهل تعي وتقبل تيارات الإسلام السياسي هذه التصورات العلمانية للدولة قبل مطالبتها للقوى المدنية بإعادة الاصطفاف معها، وما هو تصور الدولة الذي تستهدفه القوى الدينية وهي تسعى لاستئناف ثوراتها من جديد؟ أسئلة سوف تخسر القوى الإسلامية الكثير إن هي لم تقدم إجابات مبكرة عنها.للاستزادة يراجع كتاب "مفهوم الدولة"، لعبد الله العروي.