19 سبتمبر 2025
تسجيلليست تركيا جزءا بنيويا من المسألة الشرقية رغم أنها كانت محور المخططات الغربية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ورغم أن اتفاقية سايكس بيكو أنهت الدولة التي سادت على ثلاث قارات. لقد تحولت تركيا منذ القرن السادس عشر إلى جزء من المعادلة الأوروبية عندما اتفق السلطان سليمان القانوني، الذي استعيد مؤخرا في مسلسل تلفزيوني تركي ضخم، مع الإمبراطور الفرنسي فرانسوا الأول في منتصف القرن السادس عشر على التعاون العسكري ضد خصوم فرانسوا وسليمان المشتركين من المسيحيين. اتجه العثمانيون إلى المشرق العربي من أجل اكتساب شرعية دينية من الخليفة العباسي الأخير, لكنهم كانوا على الدوام جزءا من المسألة الأوروبية على مختلف الصعد. مثّل الشرق حقلا ومنجما لجباية الضرائب وجمع الجنود للقتال في أوروبا. ومثّلت أوروبا التحدي الذي سيترك أثره على نمط التفكير العثماني كما مثّل العثمانيون التحدي الذي أسهم في صوغ الهوية الأوروبية. لكن الفارق بين عهد السلاطين الأوائل وأولئك الذين في القرن التاسع عشر أن الأولين امتلكوا الثقة بالقدرة على التفوق فيما اتسم سلاطين عصور الانحدار بعقدة النقص تجاه التفوق الأوروبي. وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ذكّر في الصيف الماضي بأن كل محاولات الإصلاح العثمانية ومن ثم التركية في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت تستلهم النموذج الأوروبي. ليس الأمر فقط رغبة واقتناعا بل أيضاً انعكاس لموازين القوى.القوي يحاول أن يفرض سيطرته وثقافته ونموذجه.وهذا ما حصل. أربع محاولات إصلاح عثمانية وتركية اثنتان في القرن التاسع عشر واثنتان في القرن العشرين والواحد والعشرين.اثنتان في العهد الإسلامي من العثمانيين واثنتان في العهد العلماني. من تنظيمات العام 1839 إلى إصلاحات 1856 ثم بدءا من أتاتورك في العام 1923 وصولا إلى عهد حزب العدالة والتنمية في العام 2003. انتقلت تركيا من مرحلة مواجهة الند للند إلى مرحلة التوسل لاستلهام النموذج الغربي. لا تستعيد الثقافة التركية نفسها بقوة في حقبات ما قبل دخول الأتراك الإسلام ولا أيضاً في مراحل لاحقة بمعزل عن التأثيرات الثقافية واللغوية القوية من المسلمين العرب والفرس. واحدة من أهم الأمثلة على غياب الحضور التركي الجدي والعميق هو قدرة شخص مثل أتاتورك على التلاعب بالهوية التركية بسهولة فائقة وتغيير الحرف من أبجدية عربية- فارسية إلى أبجدية جديدة تختلط فيها أبجديات ألمانية وإنجليزية وفرنسية.الذهنية التركية في التفكير استنساخ لتداخل واختلاط الأبجديات في اللغة العثمانية ومن بعدها اللغة التركية. ولا يبتعد الأمر من هذه الناحية في السياسة أيضا والخيارات الاستراتيجية. من المواجهة مع الغرب إلى التواطؤ مع بعضه ضد البعض الآخر إلى استلهامه نموذجا حضاريا إلى استنساخه الاتاتوركي إلى التماهي معه بعد الحرب العالمية الثانية عسكريا واقتصاديا وسياسيا وصولا إلى استراتيجية تعدد البعد الغارقة في أجندا حلف شمال الأطلسي والمتناكفة مع فرنسا والمتواصلة مع إيران والمتصارعة مع سوريا والمترددة مع أكثر من طرف. وفي كل هذه المسارات نجد تركيا التي لا تستطيع أن تتخلص من "عقدة الغرب" فتريد أن تكون جزءا منه ولو على حساب علاقات مع المشرق فيما هو غرب لا يريد أن يقطع مع تركيا لكنه لا يريدها حيث تتعدى المسألة خيارات سياسية إلى خيارات حضارية تتصل بالهوية.وهو ما يفسر كل هذا التخبط التركي في السياسة الذي ليس سوى مرآة لتخبط الهوية الثقافية.أنت لا يمكن أن تكون علمانيا وإسلاميا في الوقت نفسه.أنت لا يمكن أن تسعى إلى التقدم والحداثة على النمط الأوروبي من دون أن تتصالح مع ذاتك في القضية الأرمنية ومشكلات الأقليات العرقية والدينية والمذهبية وقضايا الحريات.أنت لا يمكن أن تنشد نموذجا لا ينبثق من واقعك وتكون في الوقت نفسه نموذجا لآخرين. كيفما جال الباحث والمؤرخ في ثنايا التاريخ التركي، الحديث على الأقل، تلتمع في ذهنه تلك المعضلة التي تختلط فيها الهويات والذهنيات المتعارضة فتدرك أن أزمة تركيا الحديثة ليست في مجرد خيارات سياسة محدودة في الزمان والمكان ولا في تحالفات عسكرية هنا وهناك بل في التشظّي الخطير لهوية لا يزال عامودها يرى في الغرب،لا الشرق، مرتكزه.