15 سبتمبر 2025
تسجيلأخطر الأحداث وأهمها، أسوأ العلاقات بين الدول وأفضلها، أصغر الأزمات وأكثرها تعقيداً، نجدها مشرحة ومحللة في وثائق سفارات الولايات المتحدة حول العالم، ولا يتحدث السياسيون في العواصم كافة مع الدبلوماسيين الأمريكيين كما يتحدثون إلى نظرائهم من الدول الكبرى الأخرى، بل يكونون أكثر قابلية لشرح أفكارهم وعرض نياتهم وطموحاتهم وتمنياتهم آملين بتأييد واشنطن ودعمها. لم ينته هذا العقد الأول من الألفية الثالثة من دون أن يستكمل مسلسل التجارب الذي وضع الولايات المتحدة أمام امتحانها، فمن الكارثة الأمنية في 11 سبتمبر 2001م، إلى الكارثة الدبلوماسية في صيف 2010م، مروراً بحربين لم يستطع التفوق الناري المحسوم أن يضمن فيهما نصراً حقيقياً، كان على واشنطن أن تعترف بأنه ليس هناك أكثر صلابة من دولة عظمى، ولا أكثر هشاشة أيضاً منها. كانت الكارثة الأمنية، متمثلة بالهجمات الإرهابية في نيويورك، كشفت منظومة الأمن الأمريكية واستدعت مراجعة واسعة وعميقة أدت إلى زيادة غير مسبوقة للأجهزة، التي تجد مع ذلك صعوبة أحياناً في التنسيق واستخلاص خطورة الإشارات، وها هي الكارثة الدبلوماسية تستوجب إعادة نظر في أمن المراسلات وتكليف وكالة الاستخبارات وضع تشفير محدث يعصى على القرصنة والتدخلات، ورغم ذلك لا يمكن ضمان عدم التسريب. ثمة محاولات لإظهار أن تسريبات موقع ويكيليكس مجرد حادثة عابرة قد تكون نتجت عن انحراف شخص أو أشخاص، أو خروجهم على أعراف العمل وقيوده، أو انزلاقهم إلى أجندات خاصة أيديولوجية وربما نفعية، واقع الأمر أن ويكيليكس أوجدت حاجة استعلام جديدة لدى المستهلكين والمتلقين والمتطفلين والباحثين وغيرهم، هذه الحاجة وجدت نفسها فجأة أمام طوفان معلومات لا يمكنها استيعابه، لكنها معلومات ستبقى ذات قيمة خلال السنين العشر المقبلة، كونها تتعلق بأزمات بعضها مزمن ولا يبدو قابلا للحل الناجز والنهائي نظراً إلى تعقيداته وتداخلاته مع أزمات أخرى. للمرة الأولى أتيح للجمهور العريض أن يتعرف عن كثب على المواد الأولية التي تضع السياسات الأمريكية، مأخوذة مباشرة من أفواه "رجال أمريكا"، أقوالاً وأفعالاً، مطالب ورغبات وتحليلات، وهناك من كتب مثلا، إن هذه التسريبات لا تعيب صانعي القرار الأمريكيين بل تظهرهم متعاملين مع الوقائع والحقائق التي يحجمون في الغالب عن كشفها وقاية للآخرين وليس تغطية للسياسة الخاطئة، أو الملتوية، المنبثقة عن قراءة تلك البرقيات أو بين سطورها. كان لافتاً أن هذا النوع الجديد من الإعلام، أي الإلكتروني، وجد قيمة مضافة في التعاون مع النوع الأقدم، أي الصحافة المكتوبة، كانت هناك مواكبة من الإعلام المرئي والمسموع، مشفوعة بصور أرشيفية، لكن حتمية السرعة والحدثية حرمت نشرات التليفزيون من إمكان الإفادة من بحر النصوص المكتوبة التي تتعامل مباشرة مع خلفيات الأحداث وأعماقها، وفي معظم الأحيان مع تفاصيلها الدقيقة التي تتطلب شرحاً أو تحليلاً أو نبذات تاريخية. يذكر أن الموجة الأولى من التسريبات أواخر يوليو الماضي اختصت بأفغانستان وفهم منها أن أطراف التحالف الدولي تعيش أنواعاً من التناقضات بشأن الحرب وأهدافها، وأن الولايات المتحدة تعتمد على مجموعات أفغانية لا تثق بها، وأن هذه الحرب تنطوي على كمٍ هائل من التجاوزات الأخلاقية واللاإنسانية وعلى ليّ مروع للحقائق، هذا المناخ الفاسد نفسه نجده في تسريبات الموجة التالية عن العراق، أما الموجة الثالثة التي لا نزال في لججها الأولى فتظهر ذاك المناخ معمماً حول العالم. هذا اللقاء التاريخي والاستثنائي بين الإعلام الإلكتروني والصحافة المكتوبة لم يعنِ أن الأخيرة تعافت من أمراضها السياسية لترتقي إلى رحابة المهمة التي يطرحها ويكيليكس، والأكثر دلالة أن الصحافة المكتوبة الأمريكية صاحبة الشهرة الأكبر في تحليل المعلومات اختارت تعاملاً انتقائيا مع الوثائق، أو تجاهلاً انتقائياً لمضمون الكثير منها، ذاك أن الاختراق الإلكتروني دهم الصحافة المكتوبة بعدما استكانت منذ زمن للخطوط الحمر السياسية التي تحاربت معها في السابق ثم اقتنعت بالعيش ضمن حدود معينة، وإذا كان مؤسس ويكيليكس جوليان اسانج محقاً بقوله أن لا اتفاق سرياً بينه وبين إسرائيل، فإن البرهان الوحيد على ذلك سيكون بنشر وثائق عنها كما وعد، وعندئذ يمكن الحكم على أداء الصحافة المكتوبة، خصوصاً الأمريكية والفرنسية والألمانية، وما إذا كانت ستنشر ما يسر إسرائيل بالاندفاع نفسه الذي أظهرته في النشر عن بلدان عربية عدة. عدا الحاجة الاستعلامية التي زرعها ويكيليكس هناك ما هو أكثر أهمية، أي الحاجة القصوى إلى الوعي والإدراك، فمعظم الوثائق المسربة يبدي مسافة قصيرة جداً بين ما هو معروف فعلاً وما وثقته البرقيات الدبلوماسية مما يسخف تقليد حفظ هذه الوثائق لبضع عشرات السنين قبل كشفها، فهذا التقليد كان يناسب عقليات عقود سابقة وأحداثها ودبلوماسياتها وتقنياتها. ما لا نقرأه في التسريبات لكن يمكن استنتاجه بيسر، أن الدبلوماسيين الأمريكيين الذين كتبوا تقاريرهم لا يعترفون، رغم السرية التي يتمتعون بها بأن معظم القضايا التي يلاحقونها بحثا عن أي جديد فيها كان في الواقع، أو في الأصل، من صنع الولايات المتحدة نفسها، وبفعل تدخلاتها المتهورة وغير المبالية بالأضرار التي تلحقها بحياة الشعوب، ولعل ذلك يتبدى خصوصاً في الآراء التي تعكسها البرقيات عن قادة الدول غير المستقرة، فرغم الصورة القاتمة التي تنقلها عن حميد كرزاي أو نوري المالكي على سبيل المثال لم تجد الإدارة الأمريكية مفراً من الاستمرار في الاعتماد عليهما، صحيح أن هذين مثالان لبلدين شهدا حربين قاسيتين، لكن ماذا عن شخصيات مماثلة في بلدان لم تشهد أي حرب منذ سنين طويلة؟ ولا يتحدث السياسيون في العواصم كافة مع الدبلوماسيين الأمريكيين كما يتحدثون إلى نظرائهم من الدول الكبرى الأخرى، بل يكونون أكثر قابلية لشرح أفكارهم وعرض نياتهم وطموحاتهم وتمنياتهم آملين بتأييد واشنطن ودعمها. لم ينته هذا العقد الأول من الألفية الثالثة من دون أن يستكمل مسلسل التجارب الذي وضع الولايات المتحدة أمام امتحانها، فمن الكارثة الأمنية في 11 سبتمبر 2001م، إلى الكارثة الدبلوماسية في صيف 2010م، مروراً بحربين لم يستطع التفوق الناري المحسوم أن يضمن فيهما نصراً حقيقياً، كان على واشنطن أن تعترف بأنه ليس هناك أكثر صلابة من دولة عظمى، ولا أكثر هشاشة أيضاً منها. كانت الكارثة الأمنية، متمثلة بالهجمات الإرهابية في نيويورك، كشفت منظومة الأمن الأمريكية واستدعت مراجعة واسعة وعميقة أدت إلى زيادة غير مسبوقة للأجهزة، التي تجد مع ذلك صعوبة أحياناً في التنسيق واستخلاص خطورة الإشارات، وها هي الكارثة الدبلوماسية تستوجب إعادة نظر في أمن المراسلات وتكليف وكالة الاستخبارات وضع تشفير محدث يعصى على القرصنة والتدخلات، ورغم ذلك لا يمكن ضمان عدم التسريب. ثمة محاولات لإظهار أن تسريبات موقع ويكيليكس مجرد حادثة عابرة قد تكون نتجت عن انحراف شخص أو أشخاص، أو خروجهم على أعراف العمل وقيوده، أو انزلاقهم إلى أجندات خاصة أيديولوجية وربما نفعية، واقع الأمر أن ويكيليكس أوجدت حاجة استعلام جديدة لدى المستهلكين والمتلقين والمتطفلين والباحثين وغيرهم، هذه الحاجة وجدت نفسها فجأة أمام طوفان معلومات لا يمكنها استيعابه، لكنها معلومات ستبقى ذات قيمة خلال السنين العشر المقبلة، كونها تتعلق بأزمات بعضها مزمن ولا يبدو قابلا للحل الناجز والنهائي نظراً إلى تعقيداته وتداخلاته مع أزمات أخرى. للمرة الأولى أتيح للجمهور العريض أن يتعرف عن كثب على المواد الأولية التي تضع السياسات الأمريكية، مأخوذة مباشرة من أفواه "رجال أمريكا"، أقوالاً وأفعالاً، مطالب ورغبات وتحليلات، وهناك من كتب مثلا، إن هذه التسريبات لا تعيب صانعي القرار الأمريكيين بل تظهرهم متعاملين مع الوقائع والحقائق التي يحجمون في الغالب عن كشفها وقاية للآخرين وليس تغطية للسياسة الخاطئة، أو الملتوية، المنبثقة عن قراءة تلك البرقيات أو بين سطورها. كان لافتاً أن هذا النوع الجديد من الإعلام، أي الإلكتروني، وجد قيمة مضافة في التعاون مع النوع الأقدم، أي الصحافة المكتوبة، كانت هناك مواكبة من الإعلام المرئي والمسموع، مشفوعة بصور أرشيفية، لكن حتمية السرعة والحدثية حرمت نشرات التليفزيون من إمكان الإفادة من بحر النصوص المكتوبة التي تتعامل مباشرة مع خلفيات الأحداث وأعماقها، وفي معظم الأحيان مع تفاصيلها الدقيقة التي تتطلب شرحاً أو تحليلاً أو نبذات تاريخية. يذكر أن الموجة الأولى من التسريبات أواخر يوليو الماضي اختصت بأفغانستان وفهم منها أن أطراف التحالف الدولي تعيش أنواعاً من التناقضات بشأن الحرب وأهدافها، وأن الولايات المتحدة تعتمد على مجموعات أفغانية لا تثق بها، وأن هذه الحرب تنطوي على كمٍ هائل من التجاوزات الأخلاقية واللاإنسانية وعلى ليّ مروع للحقائق، هذا المناخ الفاسد نفسه نجده في تسريبات الموجة التالية عن العراق، أما الموجة الثالثة التي لا نزال في لججها الأولى فتظهر ذاك المناخ معمماً حول العالم. هذا اللقاء التاريخي والاستثنائي بين الإعلام الإلكتروني والصحافة المكتوبة لم يعنِ أن الأخيرة تعافت من أمراضها السياسية لترتقي إلى رحابة المهمة التي يطرحها ويكيليكس، والأكثر دلالة أن الصحافة المكتوبة الأمريكية صاحبة الشهرة الأكبر في تحليل المعلومات اختارت تعاملاً انتقائيا مع الوثائق، أو تجاهلاً انتقائياً لمضمون الكثير منها، ذاك أن الاختراق الإلكتروني دهم الصحافة المكتوبة بعدما استكانت منذ زمن للخطوط الحمر السياسية التي تحاربت معها في السابق ثم اقتنعت بالعيش ضمن حدود معينة، وإذا كان مؤسس ويكيليكس جوليان اسانج محقاً بقوله أن لا اتفاق سرياً بينه وبين إسرائيل، فإن البرهان الوحيد على ذلك سيكون بنشر وثائق عنها كما وعد، وعندئذ يمكن الحكم على أداء الصحافة المكتوبة، خصوصاً الأمريكية والفرنسية والألمانية، وما إذا كانت ستنشر ما يسر إسرائيل بالاندفاع نفسه الذي أظهرته في النشر عن بلدان عربية عدة. عدا الحاجة الاستعلامية التي زرعها ويكيليكس هناك ما هو أكثر أهمية، أي الحاجة القصوى إلى الوعي والإدراك، فمعظم الوثائق المسربة يبدي مسافة قصيرة جداً بين ما هو معروف فعلاً وما وثقته البرقيات الدبلوماسية مما يسخف تقليد حفظ هذه الوثائق لبضع عشرات السنين قبل كشفها، فهذا التقليد كان يناسب عقليات عقود سابقة وأحداثها ودبلوماسياتها وتقنياتها. ما لا نقرأه في التسريبات لكن يمكن استنتاجه بيسر، أن الدبلوماسيين الأمريكيين الذين كتبوا تقاريرهم لا يعترفون، رغم السرية التي يتمتعون بها بأن معظم القضايا التي يلاحقونها بحثا عن أي جديد فيها كان في الواقع، أو في الأصل، من صنع الولايات المتحدة نفسها، وبفعل تدخلاتها المتهورة وغير المبالية بالأضرار التي تلحقها بحياة الشعوب، ولعل ذلك يتبدى خصوصاً في الآراء التي تعكسها البرقيات عن قادة الدول غير المستقرة، فرغم الصورة القاتمة التي تنقلها عن حميد كرزاي أو نوري المالكي على سبيل المثال لم تجد الإدارة الأمريكية مفراً من الاستمرار في الاعتماد عليهما، صحيح أن هذين مثالان لبلدين شهدا حربين قاسيتين، لكن ماذا عن شخصيات مماثلة في بلدان لم تشهد أي حرب منذ سنين طويلة؟