15 سبتمبر 2025
تسجيللعل من لطائف رحمة الله تعالى بالإنسان أن يعرضه في حياته للعديد من المواقف التي تؤثر فيه أياً كان اتجاهها نحو نفسه ولا سيما تلك التي يفاجئه الابتلاء فيها من خوف أو جوع أو برد أو حيرة مثلا، خاصة في حالة السفر إذ يستوفز الشعور أكثر فأكثر أليس لنا أن نتذكر دوماً أن الإنسان خلق ضعيفا في كل شيء وأن تدخل العناية الإلهية لمعونته، حيث يحتاجها يعتبر عنوانا بارزا للرحمة به، وبالتالي مدعاة له للانتظار دوما على أعتاب طاعة مولاه تعالى والتأمل العميق بما يريده له مما يصلحه ويصلح له لقد لامست بصدق ويقين مشاعري هذه الخواطر وأنا في سفر من الدوحة إلى اسطنبول وسراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، حيث عشت في هذه الرحلة مع ركاب الطائرة مواقف لساعات ولكن فيها عبراً وعظات وكم في السفر من عبر. وقد دأبت منذ سنين أن أزور بلاد البوسنة رحلتين كل عام في الصيف وفي الشتاء متذكراً رحلتي قريش إلى الشام واليمن في الفصلين وإن كان الشبه مختلفاً لقد أسرتني فردوس البوسنة بجمالها الأخاذ سهلا وجبلا ونهرا وشجرا وثمرا وبشرا وفكرا، فأحببت التمتع بخلق الله في الكون واجتناء العلم والثقافة في تلك الأصقاع البعيدة، فالمعرفة وطن ليس له مكان وما أحيلى تلك الساعات التي أقضيها وأنا عاكف على مخطوطاتها البوسنية وباللغة العربية، حيث مجد الإسلام وعلومه ورجاله فيها، تاريخ كم يحتاج لنفض الغبار عنه واغتنام هذه الكنوز الفريدة منه ولعل مثل كتاب الجوهر الأسنى في علماء وشعراء بوسنة المطبوع لمصنفه العلامة المرحوم محمد الخانجي يضع القارئ على أعتاب هذا التراث الأصيل ورجاله العلماء والأدباء الأفذاذ، وما أحيلي الليالي والأيام التي أتفيأ مع لفيف من الأساتذة هناك بعض ظلالها وهم من هم نماذج للنهضة، حيث نتعاون على البر والتقوى دعما للتعليم والثقافة والعناية باللغة العربية لقد يممت في الأسبوع الماضي السفر إليهم مع أني كنت أشعر وأعرف والجميع أن هذا الشتاء بارد جدا في أوروبا والأجواء مضطربة والشواهد لوقوع أحداث وتعطل مطارات وقعت وألغيت وأخرت رحلات، لكن القدر ساقني رغم ذلك أن أكون في رحلة عادية إلى اسطنبول، وقد أكرمني الله بصلاة الفجر في مطارها وانشرح صدري، حيث كان الانتظار قليلا والطائرة البوسنية الكبيرة لأول مرة في موعدها وكانت مغرية للاطمئنان بخلاف لما كانت صغيرة لا تتسع إلا لأربعين راكبا فقد عانيت منها في سفر الشتاء سابقا، فحمدت الله على تيسير الطائرة الكبيرة التي هي أكثر صمودا أمام الرياح والأجواء المتقلبة، وزادني فرحا أنني تعرفت على أخ أستاذ وإمام بوسني يتكلم العربية وقد درس في دمشق مما أراحني نفسيا وطمأنني، وقد امتطيت الطائرة برفقة هذا الأستاذ "اسمير" لكن مقعده كان في الخلف فقلت له: بعد الإقلاع أعود إليك إن شاء الله، لقد كان الجو ثابتا وعاديا منذ خروجنا وفرحت لهذه الطائرة الواسعة النظيفة المجهزة التي تحمل شعار البوسنة وخطوطها، ونظراً لكوني لم أكتحل بشيء من النوم في الليل اجتهدت أن استريح قليلا ثم أمر على السيد اسمير، لكنني نظرت إلى الخلف فرأيت بجانبه امرأة أشبه بالعجوز أجنبية ظننتها بوسنوية وهما يتحدثان، فلم أشأ أن أقطع مشوارهما، وما إن سار شيء من الوقت حتى بدأ الجو يضطرب شيئا فشيئا وأخذت الرياح تلطم الطائرة فتهتز وتميل وترتفع وتنخفض حتى استمر ذلك دون توقف وسمعت بعض الراكبين من أصل 150، حيث لم تمتلئ سفينتنا وهم يضحكون فقلت في نفسي ما شاء الله الناس معتادون على المطبات الهوائية واضطرابات الأجواء وأنا أشعر أن ذلك ليس عاديا فرجعت إلى نفسي ولمتها وقلت كن مثلهم، فالشجاعة ها هنا تعرف، ثم أخذ الوقت يمر سريعاً أو بطيئاً وقد دخلنا أجواء البوسنة بالاتجاه إلى سراييفو المحاطة بالجبال ونحن لا نرى إلا القتام والضباب وكأننا ريشة في مهب الريح وإذا بقائد الطائرة يعلن أنه بعد اتصاله بالبرج لن يتمكن من الهبوط وأنه بعد عشرين دقيقة سوف يتصلون به ليخبرنا بالجديد، ورجع الرجل للتحليق بنا أعلى مرة أخرى حائما حول الجبال دائراً وسائراً في اتجاهاته أكثر من ساعتين ولم يخبرنا بشيء وحتى لما سألت إحدى المضيفات قالت "وي دونت نو أني ثينك" إنها المضيفة نفسها لا تعرف شيئا والربان لم يعد ينقل الخبر السار للركاب الذين تأملت فيهم ورمقتهم مليا والحال هكذا فلم أجد إلا صمت القبور يلفهم ولا تسمع منهم إلا همسا، لقد كان الجزع والقلق سيد الموقف، قلت: يا سبحان الله رحلة وقتها ساعة ونصف الساعة تأخذ منا أكثر من خمس ساعات ونصف الساعة، وأخذت أفكر ويخطر كل شيء في بالي، وقلت لابد أن أكلم اسمير فهو الوحيد الذي يعرف العربية، ما الخطب وإلى أين نسير فمنعتني المضيفة، فألححت أن أجلس بجانبه فاعتذر إليّ ببسمة ضيقة، وقال ونحن لا نعرف شيئا إلا أن هذه العجوز التي بجانبي وقد جاءت من قطر من زيارة صهرها الطبيب في مستشفى حمد هي بولندية تسكن في البوسنة وقد آثرت إتمام الحديث معها عن الإسلام وهي فرحة إلا أنها جد غضبانة من هذا "الكابتن" الذي لم تر أجهل منه، لماذا لا يهبط في مطار موستار المعروفة بقلة برودتها مثلا أو مطار زغرب أو سلوفينيا أو يعود بنا إلى اسطنبول، فلا شك أن الوقود سينتهي، وحدها تلك العجوز التي رأيتها تشكو ولم أر أحدا من الركاب الذين هم خليط من المسلمين والكروات والصرب وبعض الأتراك وغيرهم ينبس ببنت شفة ولا يمكن أن تلحظ الترابط الذي يجب أن يكون بينهم إنسانيا فإن الخلاف في الأديان يكون داعية للتعاون بدافع الحاجة البشرية كما يقول أبو الحسن الماوردي وهنا خطر في بالي أن الإنسان لا يدري متى يبغته الموت هذا الموعد المجهول وقد ألقى الله على نفسي السكينة أي والله وسلمت الأمر إليه وتذكرت قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثديي أمه فازددت اطمئناناً ولكن خطر في بالي أيضا كم نحن مقصرون في كتابة الوصية التي قد لا تستغرق إلا قليلا وهذا من الواجبات، وكذلك إجراء الوكالة المالية مهما كان الأمر والوكالة بكل ما هو مطلوب، فالمسلم يجب أن يريح من بعده ويوثق الأمانات والعهود في حياته وكذلك خطر في بالي كيف يذكر الفقهاء والمفسرون عند قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة...)، "البقرة"، إن البحر يحظر ركوبه أثناء ارتجاجه خوفا من الغرق، فقس ذلك على الجو والبر، ثم تذكرت كيف يقوم الإسلام بالتسلية والتسرية للناس عند المصائب ليخففها، حيث إن المصائب يجمعن المصابينا على غرار ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في غزوة الخندق، حيث البرد والجوع فيتمثل لهم الرجز وهم يجيبونه لتسهيل الخطب وقلت أين مدينة اليوم من حضارة الإسلام. وأخيراً جاء الأمر بالهبوط في مطار بانيالوكا المدينة الثانية بعد سراييفو وإذا بصديقين عزيزين شهمين من السعودية في الطائرة معنا انتظرا وآنسانا وأكرمانا السيدين محمد الرشيد إبراهيم وسلطان داود بخلاف إدارة المطار السيئة ثم عدنا بعد ساعة إلى سراييفو وصفق الجميع.. فيالها من رحلة!