14 سبتمبر 2025

تسجيل

إلى الأمام يا روميل !

27 نوفمبر 2013

أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت مصر ساحة للمواجهات بين قوات الحلفاء وقوات المحور، واجتاحت قوات الفيلق الأفريقي بقيادة أرفين روميل شمال أفريقيا ووصلت إلى مصر بعد سلسلة من الانتصارات المذهلة والسريعة على قوات الحلفاء، حتى هُزمت على يد المارشال برنارد مونتجمرى في معركة العلمين. وقد أثار التقدم الألماني، والذي كان يستهدف احتلال مصر والسيطرة على قناة السويس، مشاعر متباينة في حينه، تراوحت بين الخوف من أن تحل ألمانيا بنظامها النازي محل انجلترا في احتلال مصر، وبين الحماس لهذا التقدم الألماني على أمل أن يخلص البلاد من الاحتلال البريطاني. ولكن بمرور الوقت تنامى الاتجاه الثاني وكثر أنصاره، إلى حد أن خرجت المظاهرات تهتف "إلى الأمام يا روميل"! الشاهد من هذه الحادثة هو ذلك التخبط الذي انتاب الشعور الوطني وقتها، فالمصريون الذين كانوا يريدون التحرر من الانجليز رضي الكثير منهم باحتلال ألماني يحل محله، بل وهتفوا مرحبين بالقائد العسكري الذي كان سينفذ مخطط هذا الاحتلال. وفي واقع الأمر فإن المصريين لم يكونوا جاهلين بأهداف النازي ولا بطموحه السياسي، بل إن الكثيرين منهم تضرروا بشكل مباشر من القصف الألماني للمواقع الانجليزية القريبة من المناطق السكنية، ولكنهم كانوا يريدون خلاصا من الانجليز بأى طريقة حتى لو انطبق عليهم وصف المستجير من الرمضاء بالنار، ساعدهم على ذلك تلك الصورة الشعبية التي رسمت لروميل كثعلب فائق القدرة وبالغ الدهاء. فهل يمكن أن نفهم سلوك المصريين بعد 3 يوليو بنفس الطريقة؟ وهل يمكن أن نفسر احتفاء المصريين بالانقلاب وقائده في ضوء احتفائهم بالغزو الألماني وقائده؟ صحيح أن الانقلاب عمل داخلي وليس غزوا أو احتلالا خارجيا، ولكنه بالتأكيد لم يكن هو ما ثار المصريون في 25 يناير 2011 من أجله، فلقد ثاروا من أجل الحصول على حكم مدني يملكون من خلاله إرادتهم ومستقبلهم، ولم يثوروا من أجل ان يأتي العسكر بأدواتهم الغليظة وحكمهم القسري لكي يعتلوا رؤوسهم وظهورهم. ولكن الغريب أن الكثير من المصريين قد قبلوا بمنتهى البساطة أن يتنازلوا عن حلمهم لصالح انقلاب صريح، تتساقط في ظله كافة مكتسبات الثورة، وتعود على نحو شديد الوضوح من خلاله أجواء الدولة القمعية لكي تخيم على البلاد، والأسوأ أن يتزامن كل هذا مع صناعة لفرعون جديد يسلمونه رقابهم وعقولهم، على نحو لم يقبلوا به حتى في ظل نظام مبارك. وتتعدد مظاهر عملية صناعة الفرعون، فتأخذ شكل التهليل الإعلامي الذي لا ينقطع تارة، كما تأخذ شكل التأييد الأعمى من قبل القوى السياسية الموالية للقائد تارة أخرى، ذلك فضلاً عن المظاهر الاحتفالية الشعبية مثل وضع صور القائد في الشوارع وعلى جدران البيوت، واستخدامها في تزيين قاعات الأفراح وقطع الحلوى، ولا ننسى الحملات — المدعومة فى بعض الأحيان بدعاوى قضائية — التي انطلقت لإلزام القائد بالترشح لمنصب رئيس الجمهورية، أو تولي المنصب مباشرة من دون المرور على خطوة الانتخابات. وهكذا صار الناس وكأنهم يعيشون حالة من غسيل المخ الجماعي، وصفتها الصحف الأجنبية بأنها عودة لـ"عبادة الفرعون" تحتاج منا أن نفهم أسبابها. أقرب التفسيرات لهذه الظاهرة تذهب إلى أن الإعلام كما نجح فى وقت الاجتياح النازي للعالم (إعلام جوبلز) فى تصوير روميل وأتباعه على أنهم مخلصون للشعوب المغلوبة على أمرها من غطرسة الانجليز، فقد نجح (إعلام الدولة العميقة) بعد 3 يوليو في أن يصور الانقلاب على أنه تخليص لمصر من حكم الإخوان وطمعهم. وكما برع جوبلز فى تصوير روميل على انه المخلص المنتظر لمصر من غطرسة الإنجليز، صور أقرانه المعاصرون قائد الانقلاب على أنه المنقذ الذي انتشل مصر من جحيم الإخوان، والبطل الذي وضع روحه على كفه وهو يقوم بهذه المهمة الجبارة. وقد استغل الإعلام حالة المراهقة السياسية المنتشرة في المجتمعات الآخذة فى النمو (ومنها المجتمع المصري) لبلوغ هدفه وتمرير مشروعه الداعم للانقلاب. والمراهقة السياسية مثلها مثل المراهقة العاطفية تشير إلى التعلق بأول من يصلح التعلق به، وذلك في إطار سلوك غريزي ليس للعقل تحكم فيه. فكما أن المراهق عاطفيا يتعلق بأول من يرى، متخيلاً أن حلمه قد تجسد في صورة المحبوب، فإن المراهق سياسيا يتعلق بأول من يتصور أنه يحمل صفات الزعيم والرمز والقائد. ويبدو أن الكثير من المصريين كانوا يعانون من هذه الأعراض، وبخاصة بعد أن افتقروا إلى نمط القيادة الملهمة في فترتي مبارك ومرسي. ولكن الغريب بحق أنه إذا كانت تقنية صناعة الزعيم قد حازت مقومات النجاح فى حالة روميل بوصفه قائدا فذا نجح في مشاكسة الإنجليز وتحقيق انتصارات أسطورية إزاءهم، فإن "القائد – الرمز" في الحالة التي نتناولها لم يتعرض لمحكات حقيقية تثبت زعامته أو قدرته على القيادة، بل إن العقلاء من أنصاره قد باتوا مقتنعين أنه تسرع فيما قام به، وتحمل حمولة لن يستطيع أن يفي بمتطلباتها. فإنجازه الوحيد تمثل في الانقلاب على الرئيس المنتخب شرعيا، والإطاحة بكافة المؤسسات التي شيدتها ثورة 25 يناير، فضلاً عن إيقاع أعداد من القتلى تفوق ما نجح أي نظام آخر قبله في تسجيلها، بما في ذلك النظام الناصري الذي التزم نهج الحل الأمني الصارم. ورغم غياب أى إنجازات حقيقية للقائد — الرمز إلا أن حالة الاندفاع الشعبوي المجنون مازالت تمجده وتضعه في منزلة  الفرعون، القادم من السماء تارة، ومن عالم الأساطير تارة أخرى، أو في صورة البطل الهوليوودي القادر على فعل المعجزات، وقهر المستحيلات. فهو القائد ذو الإرادة الفائقة، والعزيمة الماضية، غير المقدر له أن ينحني أو ينكسر، والمنتصر حتى لو لو أتته الهزائم من كل مكان! ولحماية هذه الصورة الفائقة ينشط الإعلام على الجانب الآخر في تصوير أعدائه من الإخوان على أنهم شر مطلق، وإظهار فترة حكمهم على أنها كانت بمثابة فترة احتلال حقيقي وذلك وفق سيناريو لـ"صناعة الخوف" نجح بالفعل في جعل قطاع كبير من المصريين يرجون التخلص منه حتى لو كان البديل هو حكم العسكر وعودة الدولة العميقة، على نحو ما سنتناول  في مقال قادم إن شاء الله.