11 سبتمبر 2025

تسجيل

"البوركيني" وغياب التسامح وإقصاء الآخر

27 أغسطس 2016

مازالت سلسلة معاداة كل ما له صلة بالإسلام تتواصل في فرنسا وفي عواصم غربية عديدة آخرها قضية البوركيني، لباس البحر المحتشم الذي أزعج الكثيرين. قضية الإسلام والغرب تعود من جديد لتكشف المستور وتكشف فشل حوار الديانات والحضارات وغياب التسامح والعيش في فضاء متعدد الديانات والثقافات والحضارات بكل حرية وأمن وأمان واطمئنان. فالغرب الذي يتغنى بحقوق الإنسان وحرية الفكر والمعتقد لا يتسامح مع طريقة لباس الآخر وهي من الحريات الفردية. ففي الغرب البكيني والتبرج والعري مباح لكن اللباس المحتشم يتنافى والعلمانية وقيم المجتمعات الغربية. أثارت قضية الحجاب والنقاب في فرنسا خلال العقود الماضية نقاشات ساخنة وجدالا حادا بين أطراف عديدة في الوسط السياسي والرأي العام الفرنسي. خلال السنوات الماضية طُرح للنقاش موضوع الإسلام واللائكية بداعي "حماية النظام الجمهوري من مخاطر التطرف" كما يقول "جان فرانسوا كوبي"، الأمين العام لـ"حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية". ما نشاهده هذه الأيام في فرنسا هو حملة منسقة ومنظمة ضد الإسلام والمسلمين والعرب، بدأت بإعلان الحرب على الخمار ثم النقاب ثم اللحم الحلال ثم منارات المساجد ثم الهوية الوطنية ثم النقاش حول الإسلام واللائكية وأخيرا البوركيني ونلاحظ هنا استهداف الإسلام تحديدا دون غيره من الديانات الأخرى. في البداية يجب أن ننّوه أن فرنسا حرة في اتخاذ ما يناسبها من قرارات وقوانين تطبقها على أراضيها، لكن ما لا تستطيع فرنسا فعله هو أن تناقض المبادئ والقوانين والسياسات والشعارات التي أفرزتها الثورة الفرنسية قبل قرنين من الزمن. في سنة 1905 تبنّت فرنسا العلمانية وفصلت بين الدين والدولة وجعلت من الكنيسة مكان للعبادة والتقرب من الله، لكن لم تعن العلمانية معاداة الدين أو تهميشه أو اتخاذ موقف ممن يمارس ديانته أو طقوسه الدينية. بالإضافة نلاحظ أن مبادئ الثورة الفرنسية تقوم على "الحرية - المساواة - الأخوة"، وهذا يعني حرية التدين والمساواة في التعامل مع أفراد المجتمع الفرنسي من مواطنين بعدالة تامة بغض النظر عن اللون أو العرق أو الدين أو الأصل، أما الأخوة فتعني التلاحم التام بين المواطنين الفرنسيين بغض النظر عن خلفياتهم وأصولهم. فالمجتمع الفرنسي يحوي أجناسا عديدة معظمها ينحدر من مستعمراتها السابقة، أما عن المسلمين في فرنسا فيزيد عددهم على الخمس ملايين، أما عن الجنسيات في فرنسا فهناك أكثر من مائة جنسية وهناك فرنسيين من أصل عربي وإفريقي ولاتيني وآسيوي إلى غير ذلك. وإذا عدنا قليلا إلى الوراء وإلى لجنة "ستازي" التي شُكلت في عهد الرئيس جاك شيراك لتحضير ملف متكامل عن قضية الحجاب الإسلامي لاتخاذ قرار نهائي في الموضوع، نلاحظ أن هذه اللجنة استعانت في عملها بشخصيات محسوبة على الإسلام لكن لا علاقة لها به سواء من حيث الممارسة أو الفهم الشرعي والفقهي والقانوني للدين الحنيف. وبذلك وقفت شخصيات وأطراف عديدة من أصل مغاربي وشرق أوسطي وحتى إيراني ضد ارتداء الحجاب، الأمر الذي أدى باللجنة إلى الاعتماد على أقوال وشهادات هؤلاء في اقتراح حظر المظاهر الدينية في المدارس الحكومية. فبكل بساطة نظرت لجنة "ستازي" وفرنسا بحكامها وقادتها السياسيين إلى الحجاب والقلنسوة والصليب الكبير بنفس النظرة وسوّت بين الثلاثة بدون أن تحقق في الأمر الذي نلاحظ عليه تباينا كبيرا جدا. فإذا كانت القلنسوة اليهودية مظهرا من مظاهر هذه الديانة، والصلبان الكبيرة مظهرا من مظاهر المسيحية، فالحجاب الإسلامي يكتسي بعدا دينيا وفلسفيا وعقائديا وثقافيا وحياتيا وهو نهج حياتي متكامل والهدف منه ليس التمظهر وإبراز الانتساب الديني أو استفزاز الآخر وإنما الهدف منه هو احترام إنسانية المرأة وجسمها وشعورها واحترام الآخر بعدم إثارة مشاعره وغرائزه. هذه هي العبرة من الحجاب ليس إلا، وهنا نلاحظ الإتيكيت واحترام الآخر عندما تكون المرأة مرتدية لباسا محترما أنيقا يليق بمقامها وكم من فرد سواء كان علمانيا أو لائكيا أو ملحدا ينفر ويشمئز عندما يشاهد امرأة أمامه شبه عارية متبرجة لم تحترم جسمها في المقام الأول ولم تحترم نفسها ولم تحترم الآخرين. هذا هو الخطأ الكبير الذي وقعت فيه لجنة "ستازي" وأوقعت الرئيس شيراك في مأزق كبير قد يندم عليه مدى حياته. فالقرار جاء مناقضا لمبادئ الثورة الفرنسية ولحرية الفرد الفرنسي في التعامل مع لباسه وهندامه، فالأمر يتعلق بالحرية الشخصية وحرية الفرد كما أن الحجاب ليس استفزاز ولا اعتداء على حرية الآخرين. تجدر الإشارة هنا إلى سياسة الاندماج التي تنتهجها فرنسا والتي تهدف من ورائها إلى تحقيق ذوبان الآخر في المجتمع الفرنسي وفي ثقافته وتقاليده وعادته ففرنسا تريد من ما يزيد على الخمسة ملايين مسلم الموجودين على أراضيها ممارسة إسلام على الطريقة الفرنسية يتماشى مع المجتمع الفرنسي ومفصل وفق ما يريده الفرنسيون وهذا يعتبر في حد ذاته تدخلا سافرا في الآخر وفي دينه ومعتقداته، فالدين الإسلامي دين واحد فلا يوجد دين إسلامي خاص بفرنسا وآخر ببريطانيا وثالث بأمريكا إلى أخره. وحتى في مستعمراتها وتاريخها الاستعماري في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت فرنسا تصنع رجال دين مسلمين يفّصلون لها الدين الإسلامي وفق المقاس الذي تريده، ووفق أهدافها الاستعمارية الاستغلالية الابتزازية أما الأئمة الذين يخرجون عن طاعتها فكانت تسميهم بالمتمردين"rebels" وتقوم بنفيهم أو إعدامهم أو سجنهم أو تهميشهم. إن قضية الإسلام واللائكية وقضية النقاب في فرنسا قديمة قدم تواجد المسلمين في فرنسا، هؤلاء المسلمون الذين حاربوا في صفوفها إبان الحرب العالمية الأولى والثانية والذين دافعوا عن ألوانها الوطنية في مختلف المحافل الدولية وفي مختلف المناسبات الرياضية العالمية. فيبدو أن عدوى "الإسلاموفوبيا" وعدوى الإرهاب قد انتشرت في الشارع الفرنسي والأوروبي ما يشير إلى فشل حوار الحضارات والديانات وفشل فهم الآخر وبكل بساطة أصبح الإسلام يُفسر ويُشرح وفق الصور النمطية ووفق الحملات الدعائية المغرضة التي تفرغه من محتواه وتشوهه وتجعل منه دين العنف ودين "الأربع زوجات" ودين الاضطهاد والطغيان وإقصاء الآخر ودين الاستبداد والإرهاب. وانطلاقا من سوء الفهم ومن انعدام محاولة فهم الأخر وانطلاقا من الاعتماد على حفنة من المحسوبين على الإسلام والحاقدين عليه قد يكون المشرع الفرنسي قد ارتكب خطأ فادحا في حق الديمقراطية وحقوق الإنسان والمبادئ التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية. خطأ قد لا يغفره التاريخ للحاقدين على القيم الإنسانية. صحيح أن الموضوع شأن فرنسي داخلي لكن هذا لا يمنع ملايين المسلمين في فرنسا من حرية ممارسة دينهم وشعائرهم وعقيدتهم، وأن مساواة القلنسوة والصلبان الكبيرة بالحجاب ما هو إلا جهل تام بالدين الإسلامي وبفلسفته وأهدافه ومبادئه، إن سياسة الحقد والكراهية والعنصرية لا تجدي نفعا. ففي الوقت الذي اشتدت لهجة الغرب الساخط على الإسلام بخصوص لباس البحر المحتشم الذي تم حظره في فرنسا مؤخرا، دافع رئيس الوزراء الكندي غاستن ترودو عنه بشراسة معتبرا أنه يندرج ضمن الحريات الشخصية التي لا تقبل الانتهاك. غاستن ترودو وقف شبه وحيد في وجه الأصوات المعادية للإسلام وقال: إن قبول البوركيني هو قبول للآخر في مجتمع متعدد الديانات والثقافات والأجناس، وأضاف رئيس الوزراء وهو المدافع عن التعددية الثقافية، في مؤتمر صحفي: إن "القبول بشخص ما يعني تقبل حقه في الوجود، لكن شرط ألا يأتي ويسبب الكثير من الإزعاج لنا". وردا على سؤال حول الجدل الدائر في فرنسا حول "البوركيني"، دعا ترودو إلى "احترام حقوق الأفراد وخياراتهم" وهو مبدأ "يجب أن يحتل الأولوية في خطاباتنا ونقاشاتنا العامة" على حد قوله. ومنع عدد من رؤساء البلديات في فرنسا خلال الأسابيع الماضية السباحة بلباس البحر المحتشم. يرى منتقدو "البوركيني" أنه يعكس نظرة غير متسامحة من المرتديات له. وتابع رئيس الوزراء الكندي: "نعم، بالتأكيد، هناك جدل هنا وهناك، كما هو مألوف دائما، والنقاشات ستتواصل"، مشددا في المقابل على أنه "في كندا يجب أن نذهب إلى ما هو أبعد من التسامح".