10 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); تواجه هيئة الحقيقة والكرامة (الهيئة الدستورية المكلفة بالمحاسبة والمصالحة)، معركة "كسر عظام" مع جزء هام من الحاكمين الجدد في تونس، ومع قسم من الفاعلين السياسيين. المعركة انطلقت منذ اللحظات الأولى لإنشاء هذه الهيئة من قبل المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان السابق)، عندما طعن بعض السياسيين في استقلالية الهيئة ثم في تركيبتها، وصولاً إلى النيل من رئيستها المناضلة سهام بن سدرين، التي كان صوتها مرتفعا زمن الاستبداد، بينما كان منتقدوها اليوم، بالكاد يعبرون عن رأيهم في الحكم السابق، وانتهت هذه الموجة من التشكيك باستقالة عضوين في محاولة لهزّ الثقة في الهيئة، لكن بن سدرين واصلت عملها بثبات. عملية الهرسلة هذه لم تتوقف البتّة، بل ازدادت وتيرتها التصعيدية على خلفية مطالبة الهيئة بأرشيف رئاسة الجمهورية للبتّ فيه باعتباره جزءا من مادة بحثها وتمحيصها في "تراث الاستبداد والفساد"، حيث تم منعها من الحصول على الأرشيف، وشنّت ضدها حملة شرسة كادت أن تطيح بالهيئة لولا يقظة المجتمع المدني والبعض من أحزاب المعارضة.. ومع الإعلان عن مشروع قانون للمصالحة مع رموز الفساد والاستبداد، عادت المواجهة مع الهيئة ورئيستها التي رفضت هذا القانون، واعتبرته تجاوزا لأعمال هيئة الحقيقة والكرامة، وقفزا على مهمتها التي بعثت من أجلها، وهي المصالحة، وهنا بدأت تبرز مؤشرات انقلاب السحر على الساحر.. حراك متصاعد إذ تحركت أحزاب ونواب في البرلمان ومنظمات المجتمع المدني ومواطنون ومؤسسات إعلامية، للتعبير عن الرفض المطلق لهذه المصالحة التي ترغب في تمكين أقل من عشرين رجل أعمال يعدّون من "الحيتان الضخمة"، من استئناف نشاطهم مقابل فتات من الخطايا التي يقدمونها باليد اليمنى ليتلقوا أضعافها باليد اليسرى، في تسوية مجحفة في حق من عذّبوا وشردوا وافتكت أرزاقهم ومصالحهم وأموالهم من قبل هؤلاء الذين يراد اليوم مصالحتهم دون أي محاسبة لهم.. هكذا انتفض قسم واسع من الرأي العام الوطني للتعبير عن رفضه لهذا الشكل من المصالحة، وتشكلت من أجل ذلك فعاليات وهيئات للدفاع ومساندة هيئة الحقيقة والكرامة، باعتبارها الضامنة للعدالة الانتقالية، ولإنصاف ضحايا العهدين البورقيبي والبنعلي، وسط تجاذب سياسي حادّ، طرفاه رئاسة الجمهورية وبعض الأحزاب من الائتلاف الحاكم، ومن خارجه بالإضافة إلى رجال أعمال، في مقابل معارضة بدأت تستعيد زمام المبادرة وإن لم تتشكل في كتلة واحدة، ومنظمات ترفع صوتها عاليا منددة بهذا المسار الذي تعتبره التفافا على الثورة وأهم استحقاقاتها، ونعني هنا العدالة الانتقالية. ومع إصرار رئيسة الهيئة الوطنية للحقيقة والكرامة على حشد الرأي العام الوطني والدولي من أجل إنجاز مصالحة وفقا للقانون، وقادرة على تجنيب تونس التداين من المؤسسات الدولية، والتقاط أنفاسها اقتصاديا وماليا، كما تقول السيدة سهام بن سدرين، تحركت بعض الأطراف السياسية مستفيدة من المحاصصة الحزبية صلب الهيئة لتفجير الوضع داخلها، من خلال اتهام رئيسة الهيئة بالاستعانة بالخارج لتغيير الحكومة، في مشهد يذكرنا بذات التهم التي كان النظام السابق يوجهها لمعارضيه ومن ليسوا في صفه، وهنا "مربط الفرس"، كما يقال.. الصراع الحقيقي فالموضوع المهيمن، هو هذه المناكفات حول كيفية المصالحة الوطنية، وتوقيتها والمعنيين بها، ومن يتولى إنجازها، ولكنّ المشهد أوسع من هذا بكثير.. إنه الصراع حول التطبيع مع المنظومة القديمة، وخاصة مع الجانب المورط فيها بالفساد والاستبداد.. الصراع بخصوص استئناف استحقاقات الثورة أم الارتداد عليها.. الصراع بين استعادة الاستبداد في أبشع صوره، وتنشيط شرايين البناء الديمقراطي. ويبدو أن الناس ضاق ذرعهم بعد خمس سنوات من ثورة يناير 2011، وباتوا ينظرون إلى الوضع نظرة يأس وقنوط.. فلا التنمية زارتهم في المحافظات الشمالية التي ازدادت غرقا في وحل الفقر والخصاصة، ولا فرص العمل توفرت للشباب ولو بالقدر الأدنى، ولا الدولة غيرت من تقاليدها في المحسوبية وانعدام الشفافية والمحاباة، لا بل إن ممارسات القمع والتعذيب عادت لتطل برأسها من جديد، والحريات باتت مهددة في كينونتها، ورموز العهد البائد عادت لتحتل مكانا لها صلب مفاصل الدولة، ثم يضاف إلى كل ذلك، استهداف المربع الأخير للثورة، وهي العدالة الانتقالية، ومحاسبة ما يوصفون بـ"المجرمين".. لذلك تبدو هيئة الحقيقة والكرامة اليوم في واجهة المعركة: فإما استمرار السياق الثوري ضمن أفق البناء الديمقراطي الذي ضحّت أجيال عديدة من أجله، وإما النكوص على مرحلة وسياق وفرصة تاريخية، هي اليوم على مرمى انفلات جديد باتجاه الفوضى، أو ثورة جديدة، يسميها البعض "ثورة الجياع" ومن لم يستردوا حقوقهم.. هذا ما يعتمل في تعاليق الفيسبوكيين وكواليس السياسيين والأي العام أيضاً.. فهل ترى تونس قادرة اليوم على مواجهة مصير من هذا القبيل؟.