13 سبتمبر 2025
تسجيللا يعني تشابه خطاب النخب الحاكمة والنخب العلمانية بشأن القلق من تصاعد الهوية الدينية اتفاقهما في الأهداف أو المقاصد، فلكل منهما تصور مختلف للدين ولطبيعة العلاقة معه. نقطة الاتفاق الوحيدة بين نخبة الدولة والنخبة العلمانية تكمن في أن كليهما يرفض أن يشار إليه على أنه معاد للدين، فالدولتيون يتحاشون خسارة ثقة الجماهير المتدينة. وأصحاب الطرح العلماني يفضلون أن يطلق عليهم ليبراليون أو يساريون، ولكنهم في المجمل لا يفضلون أن يفصحوا عن علمانيتهم على نحو صريح. فيما عدا ذلك فإن ثمة فروقا أساسية ومحورية بين الطرح العلماني وبين الطرح الدولتي.فمن ناحية يعتبر العلمانيون أن الدين في تراثه، ومؤسساته، وأشخاصه يحوي بذور التعصب، وكراهية الآخر، وأنه لا يعطي للأفراد حقوقا متساوية، وأن الحل أن يبتعد الدين عن السياسة، وأن يظل في دائرة الحق الخاص. كما يحرص أصحاب الطرح العلماني على ربط الدين والتدين بكافة أشكال اللاعقلانية والتعارض مع الحداثة، ويذكر المصريون كيف تفنن العلمانيون منذ بداية الثورة في ربط الدين بمظاهر من قبيل هدم التماثيل، والتضييق على الحريات الشخصية، ومضاجعة الموتى، وتجارة الرقيق، في محاولة لإبراز خطورة انتقال الدين من المجال الخاص إلى المجال العام، ولتصوير ذلك على أنه هدم لأسس العقلانية والحرية الفردية التي يتمتع بها الأفراد في المجتمع الحديث.أما الطرح الدولتي فيقدم نفسه للناس كمشروع متصالح مع الدين، بل إنه يبني جزءا كبيرا من شرعيته على الأرضية الدينية، ويستدعي الدين لأغراض الحشد والتعبئة أو لاكتساب المزيد من الشرعية في أوقات الأزمات، وأيضا لإقناع الجماهير أنه محل لثقتهم. ولهذا تحرص نخبة الدولة على بث مراسم حضور الرئيس والوزراء لصلوات الجمع والعيدين، ومراسم تكريم حفظة القرآن والاحتفال بليلة القدر. الأمر نفسه فيما يتعلق بالخطاب السياسي، حيث يكثر الدولتيون من الاستشهاد بالآيات أو الأحاديث أو يوظفون المعاني الدينية، بل ويذهب بعضهم مسافة أبعد حينما يستخدمون عالم الرؤى والنبوءات كوسيلة لتعضيض سلطتهم وإخراس خصومهم. من ناحية ثانية ينادي العلمانيون بضرورة تحديث الدين، انطلاقا من مقولة أن التطور هو قدر الأشياء وأنه قانون طبيعي تخضع له كل الموجودات بما فيها الدين، ويذهب العلمانيون إلى أن طول الفترة بين الحاضر وبين العصور التي شهدت نزول الوحي تقضي بأن يتم إعادة تفسير النصوص الدينية لمجاراة التطور الذي شهدته العلوم الطبيعية. وعلى العكس لا يعتد الدولتيون بمقولة التحديث أو عقلنة الدين، ولكنهم رغم ذلك يطورون نسختهم الخاصة من الدين، والتي يوظفونها بأكثر مما يتدينون بها، وهذه النسخة تؤكد على عدد من العناصر الأساسية مثل أهمية الاستقرار وضرورة الحفاظ على الوضع الراهن، والتحذير من الفتنة والفوضى، والدعوة للوحدة ورفض التحزب والتعدد، والتأكيد على احترام من هم في موقع السلطة. وفي هذا الصدد لا يمانع الدولتيون من أن يجعلوا من نسختهم الرسمية للدين مصدرا — ولكن ليس المصدر الوحيد — للتشريع. أما النخبة العلمانية فترفض أي حديث عن حاكمية الدين وتحل محله عبارات عامة تتحدث عن القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية. ومن الطبيعي ألا ترى النخبة العلمانية في الانحرافات السلوكية أو الفكرية أي تهديد، وتتساءل في براءة: ما الذي يضير الدولة من انتشار الإلحاد أو الشذوذ، فطالما أن أيا من هذه السلوكيات لا تؤثر في إنتاجية الدولة أو انتظام العمل في مؤسساتها، فليس على الدولة أن تهتم بأي منها. وذلك على اعتبار أن هذه الانحرافات جزء من الحرية الشخصية، كما أنها جزء من تيار الحداثة والتقدم ونمو العقل. وحتى عندما تتحول السلوكيات السابقة إلى شكل من أشكال الجرائم، كأن تتحول إلى نمط من الاغتصاب أو التحرش، فإن التفكير العلماني لا يعبأ بهذه الممارسات إلا من حيث هي إخلال بالنظام العام وليس لأنها مجرمة أخلاقيا أو دينيا. أما الدولتيون فيعتبرون الانحرافات الفكرية والسلوكية معول هدم لجزء مهم من شرعيتهم في الحكم، ومن هنا نفهم كيف يقوم النظام الحالي في مصر والذي نفذ الانقلاب (باعترافه) خشية أن تتحول مصر نحو الهوية الإسلامية بحملة لمواجهة الإلحاد! وفي الوقت الذي يقبل فيه العلمانيون بوجود المؤسسات الدينية كرموز فلكورية وليس أكثر من ذلك، يحرص الدولتيون على أن تظل للمؤسسات الدينية هيبتها، وفي بعض الأحيان يحثون هذه المؤسسات على خوض حروب بالنيابة عنهم ضد من ينازعونهم سطوتهم من "المثقفين"، ومن فوائد هذه المواجهات بالنسبة لنخبة الدولة أنها تشد إليها انتباه العامة وتصرفهم عن الانخراط في المشكلات السياسية أو نقد الأداء السياسي للدولة. وبشكل عام لا تتحالف نخبة الدولة مع النخب العلمانية صراحة إلا في أوقات الأزمات وعلى سبيل الاضطرار، كما حدث في مصر بعد الانقلاب على نظام الإخوان المسلمين، حيث سخرت الدولة الكثير من طاقاتها ومؤسساتها لخدمة التيار العلماني الذي استغل الفرصة لتصفية حساباته مع الإسلاميين. ولكن عادة ما تستعيد نخبة الدولة قناعها الديني ومفرداتها الدينية لتصنع مسافة بينها وبين العلمانيين وذلك أمام الجماهير التي لا ترضى من حكامها أن يصطفوا في جانب المعادين لتدينهم.