14 سبتمبر 2025
تسجيلثمة مقولتان تفيدان في فهم العقلية السياسية الأمريكية يجب أخذهما بعين الاعتبار على الدوام. تُنسبُ الأولى لـ(أوتو فون بسمارك)، رجل الدولة والسياسي البروسي / الألماني الذي شغل منصب رئيس وزراء مملكة بروسيا قرابة ثلاثة عقود وأشرف على توحيد الولايات الألمانية وتأسيس الإمبراطورية الألمانية، ويقول فيها مخاطباً رجل السياسة بشكلٍ عام: «كن مهذباً، واكتب بشكلٍ دبلوماسي. حتى في حالة إعلانك للحرب ينبغي للمرء أن يأخذ بعين الاعتبار أصول اللباقة والتهذيب»!. قد يُجادل البعض قائلاً إن السياسة الأمريكية كثيراً ما تكون أقرب إلى الوقاحة الفجة، وليس لها بالتهذيب علاقة من قريبٍ أو بعيد. لكن شيئاً من التحليل يُظهر حقيقة ما نتحدث عنه. فرغم الوقاحة المذكورة الجلية في السياسات نفسِها، يَحرص ساسة أمريكا، خاصة مع من يُفترض أن يكونوا حُلفاءهم، على استخدام الكلام المعسول، والتأكيد على ادعاءات الصداقة الإستراتيجية وتقديم الوعود الفارغة في كل مناسبة. المفارقةُ أن هذا يحصلُ أكثرَ ما يحصل في أعقاب ظهور سياساتهم التي تُعاكسُ، عملياً، مضمون الدعاوى المذكورة. لا يجري هذا، بالمناسبة، مع العرب فقط، بل مع كل من يُفترض فيهم أن يكونوا حُلفاء لأمريكا فعلاً. يكفي مثالاً في السنوات الماضية عدد المرات التي انفجرت فيها فضائح تجسس أمريكية على حكومات الدول الأوروبية الكبرى وقادتها. ففي أعقاب كل فضيحة، كان يأتي الاعتذار، والوعدُ بالتحقيق، وبعدم تكرار ما جرى، ثم لا تلبث أن تظهرَ فضيحةٌ أخرى من نفس النوع والدرجة بعد فترةٍ من الزمن. قد لا يكون التجسس على رئيس دولةٍ حليفة بمثابة إعلان حرب بالتعريف السائد، لكن المثال يُعبرُ عن قاعدةٍ رئيسية في صناعة السياسة الأمريكية: افعل ما تراهُ مناسباً لمصلحتك (طبعاً ثمة خلطٌ كبيرٌ ومقصود بين مصلحة السياسي ومصلحة أمريكا الدولة)، بغض النظر عن طبيعة علاقتك مع الطرف الآخر، وبغض النظر عن الشعارات المتعلقة بالمبادئ، وسيكون (الكلام المُهذب)، أي (المعسول)، جاهزاً على الدوام للتعامل مع الموضوع. وقد أصبح من المستحيل إحصاءُ المرات التي أرسَلت، وتُرسِل، فيها الإدارات الأمريكية مبعوثاً لـ»توضيح حقائق الموضوع» فيما يتعلق بمثل هذه القضايا، ابتداءً بأعضاء في الكونجرس، وصولاً إلى نائب الرئيس، مروراً بوزيري الخارجية والدفاع، وذلك بالتناسب مع حجم القضية ذات العلاقة. هل يمكن اعتبار العلاقة الإستراتيجية بين أمريكا وإيران، والتي تسير قُدُماً تحت مُسمى مُخادع هو «الاتفاق النووي»، نوعاً من إعلان الحرب على العرب؟ قلائلُ مَن يُجادلون في الإجابة بـ»نعم» عن هذا السؤال من المواطنين والمراقبين والساسة في المنطقة العربية. وفضلاً عن مُعطيات الموضوع الواضحة للمراقب، فقد كُتِبَ فيها وقِيل عنها تفصيلٌ في الإعلام العربي إلى درجة لم يعد فيها مجالٌ لمزيدٍ من التوضيح والإضافة، بل إن (الوقاحة) في هذه المسألة تحديداً تبلغ قمةً غير مسبوقة. فأمريكا التي تعلمُ حجم وطريقة التدخلات الإيرانية في المنطقة، وباستخدام منظمات إرهابية رسمية وشبه رسمية، لتخلق أمراً واقعاً جديداً هنا وهناك، يرمي في النهاية إلى تحطيم الدول والمجتمعات العربية من الداخل، هي أمريكا التي ستفتح أبواب العالم أمام إيران لتزيد من قدراتها المالية والعسكرية (التقليدية) في تنفيذ تلك العملية. وهي، نفسُها، أمريكا التي تؤكد لحلفائها ليلَ نهار أنها لن تسمح لإيران بأي تدخلٍ عسكريٍ خارجي يهدد أمن الحلفاء واستقرار مجتمعاتهم ودولهم!. هذا هو تحديداً إعلان الحرب، بتهذيبٍ ودبلوماسية، وبطريقةٍ تجعل (بسمارك) يتقلب في قبره انبهاراً من قدرة البعض على تنفيذ وصيته بشكلٍ لم يخطر له في بال. أما المقولة الأخرى المفيدة في فهم العقلية السياسية الأمريكية فتعود للرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجن، قال فيها: «السياسة ليست مهنةً سيئة، إذا نجحتَ فهناك منافع وجوائزُ عديدة بانتظارك، أما إذا فشلت بشكلٍ مُخزٍ فبإمكانك دائماً أن تكتبَ كتاباً»!. لا صوابَ في عملية التعميم، لا في أمريكا ولا في غيرها. لكن السائد في الثقافة والساحة السياسية في أمريكا أن يأخذ السياسي قراراتٍ تؤثر في مصالح الدول والمجتمعات، لأسباب تغلبُ عليها المصالح الشخصية والفئوية، وأحياناً الأيديولوجية، بمعزلٍ كامل عن حساب مصلحة الدول والمجتمعات المذكورة، وبغض النظر عن حجم الكوارث والأضرار التي ستواجهها. يفعل السياسي هذا ببساطة، لأنه يعلم أنه سيعود في نهاية المطاف، مُتقاعداً، إلى دارتهِ الواسعة في تلةٍ جميلة أو على ساحل البحر، مع مزيدٍ من المنافع المادية التي سيجنيها من (محاضراته) التي سيلقيها هنا وهناك، ثم (كتابه) الذي سيكتبه عن تجربته.. وفي جميع الأحوال، لن يتذكر جمهورُهُ المُستهدَف أسماء الدول والمجتمعات تلك، ولن يعلم شيئاً عما أصابها من كوارث، وعن نصيب السياسي العتيد في حصولها.. لهذا، يعرف العارفون أن كثيراً من الكلام الذي يسمعه العرب من المسؤولين الأمريكان، حين يكونون في مواقعهم الرسمية، هو (بَيعُ كلام) وهو (لزوم الصنعة) لا أكثر ولا أقل. ومن الخطأ أخذهُ بجدية، بغض النظر عن مُقتضيات الدبلوماسية بطبيعة الحال، من الابتسامات إلى الزيارات مروراً بالتصريحات والمُصافحات.. منذ عقود طويلة، قال (ونستون تشرشل): «من الممكن اختصارُ تاريخ العالم في الحقيقة التالية: عندما تكونُ الأمم قوية، فإنها لا تكون دائماً عادلة. وعندما ترغبُ في ممارسة العدالة، فإنها لا تعودُ قوية». قد تنطبق هذه القاعدة على علاقة العرب بالولايات المتحدة كدولةٍ قوية اليوم، فانتظارُ العدالة منها فيما يتعلق بقضاياهم أشبهُ بانتظار (غودو) الذي لا يأتي أبداً، رغم كل (التفكير الرغائبي) السائد بخصوص قدومه. ما العمل في مواجهة هذا الواقع؟ قيل كثيراً في إجابة هذا السؤال، ويُمكن أن يُقال بأشكال وقنوات مختلفة. لكن عِبارتين من تراثنا يمكن أن توحيا بالكثير: «لا يُلدغُ المؤمن من جُحرٍ مرتين»، خاصةً مع (باعة الكلام) المتكرر هؤلاء، من الذين لا تصلح معهم إلا العبارة الأخرى: «ما حكﱠ جلدكَ مثل ظفرك.. فَتَولﱠ أنت جميعَ أمرك».