15 سبتمبر 2025

تسجيل

ملاءات وتداعيات قرارات سلفا كير

27 يوليو 2013

على الرغم من أن القرارات التي اتخذها رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير بإقالة نائبه رياك مشار الذي ينتمي إلى قبيلة النوير وحل الحكومة وتكليف وكلاء الوزارات بتسيير أعمالها، أمر يكفله له الدستور في تلك الدولة الوليدة إلا أن تلك القرارات أثارت الكثير من التساؤلات بشأن أسباب هذا الخطوة ومآلاتها، في ظل تصاعد مستمر للصراعات القبلية فضلا عن التدهور الاقتصادي المريع نتيجة لوقف تصدير النفط الذي تشكل عائداته (98%) من مجمل إيرادات الدولة.. كذلك تزامنت هذه القرارات الخطيرة مع تشكيل سلفا كير لجنة للتحقيق مع الأمين العام لحزب الحركة الشعبية الحاكم باقان أموم الذي ينتمي لقبيلة الشُلك بتهمة الدعوة للعنف والفساد المالي، وظل باقان يوجه في الفترة الأخيرة انتقادات حادة لسلفا ووصفه بأنه فشل في إدارة شؤون البلاد وتحقيق تطلعات الشعب.. ومعلوم أن سلفا ينتمي لقبيلة الدينكا أكبر قبائل دولة الجنوب وأكثرها نفوذاً.. ولعل أكثر المخاوف التي تحيط بالدولة الوليدة أن تتحول الخلافات السياسية بين قادة الحزب الحاكم إلى قتال قبلي مثلما حدث في دول إفريقية أخرى مثل رواندا بورندي وليبيريا. ورغم حضور العامل القبلي في صراعات القيادة في دولة الجنوب إلا أن عوامل أخرى فرضت نفسها على المشهد السياسي؛ فالعلاقات مع الخرطوم ظلت متأزمة رغم محاولات سلفا الحثيثة لتطبيق اتفاق التعاون المشترك الموقع بين البلدين في سبتمبر من العام الماضي. ويضمن الاتفاق لجوبا تدفق النفط عبر الأراضي السودانية ليتم تصديره عبر ميناء بورسودان في أقصى شمال شرق السودان على بعد حوالي (1600) كيلو متر.. لكن السودان ظل يتهم جوبا بدعم الحركات المتمردة عليه وربط تنفيذ الاتفاق بمعادلة (الأمن مقابل النفط)، وبدا من الواضح أن قيادات سياسية وعسكرية جنوبية ظلت تدعم التمرد ضد الخرطوم دون موافقة سلفا كير، وسبق للرجل أن أقال قيادات في الجيش الشعبي وبعض ولاة الولايات الجنوبية المتاخمة للسودان وعرف أولئك بممانعتهم لإقامة علاقات مع الخرطوم في انتظار أن ينجح التمرد ضد الخرطوم في إسقاط نظام الرئيس عمر البشير. كذلك ينظر لقرارات الرئيس سلفا في إطارات محاولات إعادة هيكلة الجهاز التنفيذي للدولة حيث تم تقليص عدد الوزارات من (39) إلى (18) وذلك يسهم في إدارة الأزمات المالية التي تسبب فيها وقف إنتاج النفط. وقبل عدة أسابيع تحدث سلفا كير بمناسبة العيد الثاني لاستقلال البلاد قائلا إن أوان التغيير قد حان، ملمحا بتعييّن حكومة كفاءات تهتم بتقديم الخدمات للمواطنين وتحسين الاقتصاد القومي. لقد ظل باقان أموم ومجموعة قيادات بالحركة الشعبية عرفت بـ(أولاد قرنق) وقرنق هو القائد التاريخي للحركة الشعبية الذي قتل في حادث تحطم طائرة في 2005، ينظرون إلى سلفا كير باعتباره قائدا "طارئا" وجد نفسه في صدارة الأحداث دون سابق إنذار بسبب الغياب المفاجئ لقرنق.. لذا ظل هؤلاء يمارسون الوصاية على سلفا إذ يعتبرون أنفسهم الأكثر دراية بلعبة السياسة من سلفا الذي كان في أغلب الأوقات في أدغال غابات جنوب السودان لا يتعاطى السياسة إطلاقا بينما كان قرنق في المقابل منفتحا على عالم السياسة بالإضافة إلى قبضته العسكرية.. رغم أن كثيرا من المراقبين رأوا في أداء سلفا الكثير من المقبولية وأنه اجتاز منذ سنوات امتحان رجل الدولة بنجاح كبير لكن ذلك لم يعجب (أولاد قرنق).. وأخذ البعض على سلفا أنه لم يكن مثل قرنق الذي كان لا يتورع في استخدام القوة المفرطة ضد أي محاولة لمعارضته.. لكن يبدو أخيراً أن سلفا كشّر عن أنيابه وضاق ذرعاً بـ"استخفاف" أولاد قرنق وقرر إقالتهم وإزاحتهم عن طريقه. لكن يظل المشكل القبلي ماثلا ومثلما هي إفريقيا قارة متعددة القبائل واللغات والأعراق والأديان فإن دولة جنوب السودان بلد متعدد القبائل واللغات والأعراق والأديان بيد أنه بدلا من أن يكون هذا التنوع مصدر قوة إلا أن النظام السياسي في تلك الدولة فشل في إدارته ومن ثمّ تحول هذا التعدد إلى عامل ضعف وانطبقت عليه مقولة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة التي قال فيها: (الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة، والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها هوى وعصبية تمانع دونها فيكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت).. لقد ظلت الحركة الشعبية تنحو في ممارستها السياسة الرسمية إلى مصادرة المجال السياسي كمجال عمومي، وتنمية وتغذية شروط احتكار السلطة، ومنعها من أن تصير إلى تداول عام ديمقراطي بين مكونات الفضاء السياسي والاجتماعي.. حين يستعصم البعض باحتكار النشاط السياسي سواء داخل التنظيم السياسي الواحد أو داخل الدولة في عمومها، فلا نجد حينها مساحة لممارسة العمل السياسي الحر حيث ينكفئ تيار بحثاً عن طريقة مناسبة ربما رفع السلاح للتعبير عن الذات ولتحقيق التوازن النفسي والمادي.