13 سبتمبر 2025

تسجيل

عندما تنجلي ثقافة التشفي والحقد والشماتة

27 يونيو 2015

أثار اعتقال الإعلامي المصري الشهير في قناة "الجزيرة" أحمد منصور في مطار برلين بألمانيا، الأسبوع الماضي، ردود فعل قوية، وأسال الكثير من الحبر خاصة أن طلب الاعتقال جاء عن طريق النظام المصري الذي وصل إلى الحكم عن طريق انقلاب أبيض وهو النظام المتهم بامتياز بانتهاك حقوق الإنسان وحرية التعبير والصحافة، وهو النظام الذي يقبع في سجونه 18 صحفيا دون محاكمة وأكثر من نصفهم محكوم عليه بالسجن مدى الحياة. الاعتقال أدى إلى تظاهر ناشطين حقوقيين ومنظمات تعنى بشؤون حرية الصحافة والتعبير أمام مقر اعتقال الصحفي المصري. من جهة أخرى طالبت منظمة هيومن رايتس واتش الأنتربول بعدم التعاون مع أنظمة تنتهك القانون الدولي، أما رئيس الاتحاد الدولي للصحفيين جيم بوملحة فاعتبر أن "التهم الموجهة للإعلامي ‏أحمد منصور تدعو للسخرية والضحك". وكشف أن أكثر من 180 قضية رفعت ضده في مصر بسبب تحديه لنظام السيسي وسعيه كأي صحفي لنقل الحقيقة إلى الناس، مبينا أن الحكومة المصرية سجنت أكثر من 70 صحفيا منذ انقلاب 3 يوليو 2013 بالإضافة إلى قتل عدد من الصحفيين. وأكد أحمد منصور إلى أن ما يقوم به كصحفي ما هو إلا تقديم الحقيقة للشعوب العربية المقموعة. مؤكداً أن أحدا لم يحقق معه طوال الأيام الثلاثة الأولى من احتجازه، وأن الأسئلة الوحيدة التي وُجهت له جاءت من الشرطة في مطار برلين، وكانت حول الاتهامات الموجهة له من النظام المصري وأوضح أن الاتهامات الموجهة للحكومة الألمانية بالخضوع لطلب نظام السيسي بإيقافه وسجنه تمهيدا لتسليمه، أوردتها صحيفة زود دويتشه تسايتونج ومجلة دير شبيجل. وأشاد منصور برفض المدعي العام في برلين الاستجابة لضغوط سياسية ودبلوماسية مورست عليه. وردا على صحفي ألماني حول علاقته مع جماعة الإخوان المسلمين، "أوضح منصور أن علاقته معهم هي نفس علاقة من سأله حول هذا الموضوع، وهي قاصرة على البحث عن الحقيقة". وكانت الصحف المصرية احتفت وتشفت باعتقال أحمد منصور، وأكد بعضها أن برلين تتجه لتسليمه إلى القاهرة، وكان لافتا اتهام رئيس تحرير 'الأسبوع' مصطفى بكري الزميل منصور بأنه 'شريك في المؤامرة ضد مصر، جنباً إلى جنب مع جماعة الإخوان'. ووصل خيال الإعلام المصري إلى حد نسج قصة نشرتها صحيفة 'اليوم السابع' قالت إنها نقلتها عن مصادر أمنية ألمانية، 'هناك صفقة يجري الاتفاق بشأنها حالياً بين برلين ومنصور، تقضي بأن يدلي الأخير بكل ما لديه من معلومات عن أماكن تواجد أبو محمد الجولاني أمير جبهة النصرة، الذي أجرى معه حوارا قبل أسبوعين، وعدد آخر من قيادات داعش الذين التقاهم، مقابل أن تفرج السلطات الألمانية عنه وعدم تسليمه إلى مصر.ما كشفته عملية الاعتقال أكثر بكثير من الحادث نفسه الذي تعرض له أحمد منصور. فالحادثة كشفت عن الأنظمة الفاسدة وعن الإعلام الفاسد الذي يتخصص في المدح والتسبيح وشهادة الزور وتزييف الحقائق والمعطيات. المؤسسات الإعلامية التابعة لنظام الانقلاب هللت وزغردت وكانت تنتظر على أحر من جمر تسليم الصحفي أحمد منصور إلى السلطات المصرية والبعض منها أعلن أن بعد ساعات معدودات سيصل المتهم إلى القاهرة. ولكن بعد ساعات أعلنت السلطات الألمانية أن القضاء الألماني لم يجد أي دليل يذكر لإيقاف الصحفي. القضية كشفت أمورا كثيرة من أهمها أن الدول التي تحترم حقوق الإنسان والحريات الفردية والتي تنعم بمجتمع مدني قوي وفضاء عام لا تستطيع أن تساوم وتزايد على قيمها ومبادئها لإرضاء الأنظمة الفاسدة والقادة الذين جاءوا للحكم عن طريق المكائد والانقلابات العسكرية. وما لم يدركه الصحفيون الذين يحاربون الحق والحرية وكلمة الحق هو أن ثقافة التشفي والحقد والكراهية والشماتة لا تفيد في شيء وإنما تنم عن الجهل والغطرسة والنفاق و"البلطجة" والسلوك السلبي الذي لا يفيد المجتمع في شيء وإنما ينشر السلوك العدواني الهدام الذي يحارب العدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان والحريات الفردية وكرامة الإنسان وإنسانيته. المشكلة هنا تتمثل في موقف بعض المؤسسات الإعلامية المصرية وبعض الصحفيين موقف التشفي والشماتة من زميل لهم في المهنة كان من المفروض مساندته والوقوف بجانبه بدلا من التحريض على سجنه وتسليمه للسلطات القمعية البوليسية. وهذا يعني أن مهنة الصحافة عندنا نحن العرب هي مهنة تفتقر إلى جمعيات مهنية قوية تحميها من تربص الأنظمة الفاسدة بها ومن قوى الفساد التي تحاول توظيفها لمصالحها الخاصة. منظمات المجتمع المدني في ألمانيا والمنظمات الدولية المهتمة بحرية الصحافة وحقوق الإنسان لم تتأخر في التظاهر والمطالبة بإطلاق سراح الصحفي أحمد منصور. والغريب في الأمر والشيء الذي يثير الدهشة والغرابة هنا هو أن بعض الصحفيين المصريين بدلا من مساندة الحق والعدالة والكلمة الحرة رأيناهم يساندون الظلم والاعتداء على الحريات الفردية وحقوق الإنسان. هل يستطيع مثل هؤلاء الإعلاميين الدفاع عن الحق والعدالة الاجتماعية وعن المهمشين؟ هل بإمكانهم تشكيل جبهة لمراقبة الفساد والتصدي له؟ أنا شخصيا أشك في ذلك لأن الذي يتشفى في زميل مهنته ويشمت فيه ظلما وبهتانا ومن يقف إلى جانب قوى الظلام لا أظن أنه يقدر على القيام بالمهام الشريفة المنوطة به كصحفي يشكل الرأي العام ويصنعه ويحارب الفساد والظلم والاضطهاد. حادثة أحمد منصور كشفت عن فساد الأنظمة وفساد المنظومة الإعلامية. ما يعني أن هناك تواطؤا قاتلا وخطيرا يكرس الفساد والظلم والأحكام الجائرة والتعدي على الحريات الفردية وحقوق الإنسان. حادثة برلين كشفت محاولة النظام المصري تسويق فساده خارج الحدود، لكن هناك في الغرب السلطة لا تستطيع فعل ما تشاء ولا تستطيع أن تخترق سلطة الرأي العام بالبساطة التي يتصوروها الطغاة. في قضية أحمد منصور القضاء الألماني لم يخضع للساسة وللمصالح السياسية والاقتصادية والإستراتيجية بين ألمانيا والنظام المصري، بل خضع لحرفيته ومهنيته واستقلاليته والقيم التي يؤمن بها. النتيجة في نهاية الأمر وصمة عار على النظام المصري ووصمة عار على جبين كل صحفي تشفى وشمت في زميل المهنة. وهذا ما يقودنا للكلام عن ضرورة إعادة النظر في القيم والمعايير والأسس التي تسير وفقها المنظومة الإعلامية. فمن غير المعقول أن تمجد المؤسسة الإعلامية رئيسا أو حاكما وبعد ذهابه أو تنحيته تقوم بانتقاده وبتمجيد الوافد الجديد على كرسي الرئاسة وهكذا دواليك. من جهة أخرى نلاحظ ثقافة الرقابة الذاتية التي تقضي في الأساس على أي عمل إعلامي يخدم الفرد والمؤسسة والمجتمع ككل. الأنظمة الفاسدة تظن أنها تستطيع تصدير الفساد إلى خارج حدودها وتظن أن الأنظمة الديمقراطية بإمكانها التواطؤ معها من أجل تحقيق مصالحها. درس برلين يؤكد أن الأنظمة الديمقراطية تنعم بوجود القوى المضادة داخل المجتمع، هذه القوى التي تحارب الفساد وتراقب المسؤولين. ففي هذه الدول الرأي العام له قوته وفعلته وله تأثيره على صانع القرار، وفي هذه الدول المجتمع المدني ينشط ويتظاهر ويناضل ليس من أجل الشماتة والتشفي والحقد والكراهية والمكائد والدسائس وإنما من أجل إعلاء كلمة الحق وإنصاف المظلومين والمهمشين.