15 سبتمبر 2025
تسجيلقليل من المصريين من يستشعر في هذه الأيام نفس ما استشعره في الحادي عشر من فبراير 2012، تاريخ تنحي الرئيس السابق، من إفراط في التوقعات. فصحيح أن النجاح في انتخاب رئيس من خارج بنية النظام السابق هو أمر إيجابي، ولكنه ليس ضمانة على بلوغ الثورة غاياتها النهائية والمتمثلة في إنهاء احتكار السلطة والثروة لصالح فئة مخصوصة من الناس. غاية ما هنالك أن المصريين ربما يكونون قد اطمأنوا أنهم لا يسيرون على خطى النموذج الروماني ولكنهم لم يتأكدوا بعد من أنهم لن يقعوا في الفخ الأوكراني. والتجربة الرومانية تتلخص في أن الرومانيين لم يدركوا أنهم وإن كانوا قد أسقطوا الديكتاتور شاوشيسكو إلا أنهم لم يسقطوا نظامه الذي لجأ إلى إشاعة موجة من الحوادث والسرقات وقطع الطرق والسطو، كما تسبب في ارتفاع الأسعار وقلة السلع الأساسية. حتى يضطر الرومانيون إلى الالتفاف حول واحد من رموزه بهدف استرجاع الأمن وتحقيق الاستقرار، وبالفعل ابتلع الرومانيون الطعم وانتخبوا "إيون إليسكو" نائب الدكتاتور الذي قامت الثورة ضده، والذي قام منذ اللحظة الأولى بتحجيم الثورة وحصارها، واتهم الشباب الذي حاول الدفاع عن الثورة من السرقة بالعمالة ثم حاكمهم ونكل بهم وبكل من عارضه. حكم إليسكو البلاد بالحديد والنار لسنوات عدة الأمر الذي أدى بالكثير من الرومانيين إلى الإحساس بأن ثورتهم قد ضاعت إلى الأبد. مسار الأحداث في الثورة المصرية افترق عن التجربة الرومانية في اللحظة التي قرر فيها المصريون ألا يصوتوا لمرشح النظام القديم، فقد أدرك أغلبية المصريين أن النظام لم يسقط بعد، وأنه إذا تركت القيادة لرمز من رموزه فإنه سرعان ما سيستعين بأعوانه التقليديين، ما يعود بالبلاد إلى نقطة الصفر. وفي الوقت نفسه فقد ارتفع وعي المصريين عن السقوط في فخ الفزاعة الأمنية، ولم يلجأوا للبديل السهل، وهو انتخاب من روج لنفسه على أنه قادر على استعادة الأمن في ساعات، رغم أن أحد أشرس المواجهات مع المتظاهرين قد تمت في عهده وقت أن كان رئيسا للوزراء في أواخر أيام النظام السابق. هذا الوعي الشعبي توج بالتصويت لصالح المرشح المنافس في محاولة لإعطاء دفعة للثورة ولمواجهة بعض ما قد يعترضها من تحديات اعترضت الثورة الأوكرانية من قبل وأدت إلى إخفاقها. ففي أوكرانيا"مثل مصر" قامت الثورة ضد فساد رجال الأعمال المتربحين من أموال الدولة وضد فساد البرلمان الذي تحول إلى «ناد للأغنياء». وفي أوكرانيا مثل مصر، تطلع الشعب إلى زعيم من خارج زمرة النظام القديم، يمتلك حلاً للمشاكل المزمنة في المجتمع مثل البطالة، وتفشي الفساد، وتعاظم الفجوة بين الأثرياء والفقراء. ولكن الزعيم الذي أبرزته الثورة وتحول إلى رمز لها، فيكتور يوتشينكو، لم ينجح بعد أن قضى خمس سنوات في السلطة أن يجد حلولاً ناجحة لهذه المشكلات، بعد أن عجز عن تخطي العقبات التي وضعتها عناصر النظام القديم في طريقه، ما أدى إلى انهيار ثقة الشعب في حكومته. وجعلت الكثيرين ينظرون إلى الثورة على أنها بمثابة كابوس مؤرق ويستشعرون من ثَمَّ خيبة أمل تجاه من قاموا بها ممن وعدوا ولم يتمكنوا من الوفاء بوعودهم. وهكذا عاد النظام القديم في أوكرانيا بعد خمس سنوات كاملة، تمكنت فيها قوى الثورة المضادة من إجهاض الحلم في التغيير ونجحت في استثمار حالة اليأس وخيبة الأمل التي سيطرت على الشارع لكي تعيد طرح نفسها على أنها الأقدر على انتشال البلاد من أزمتها. الفارق الأساسي بين الثورتين المصرية والأوكرانية أن الثانية وقف وراؤها ومولها رجال الأعمال الذين أنفقوا عليها وانتظروا المكافأة المناسبة على دورهم، وبطبيعة الحال فإنه حين تصبح الثورة مدينة لرجال الأعمال فإنها تخفق في ترجمة طموحات الجماهير. الثورة المصرية من جانبها ورغم أنها لم تشهد أي فضل لرجال الأعمال عليها إلا أنها ولظروفها الخاصة ارتبطت بالمؤسسة العسكرية، التي آل إليها أمر البلاد بنص قرار تنحي الرئيس السابق. وهكذا وبحكم الأمر الواقع أصبح للمؤسسة العسكرية وعلى رأسها المجلس الأعلى للقوات المسلحة حق إدارة المرحلة الانتقالية، ومنذ ذلك الحين يرى المجلس العسكري أن له الحق في أن يحتفظ لنفسه بقدر من الصلاحيات الاستثنائية والتي تتفوق — بموجب الإعلان الدستوري الأخير— على ما لدى الرئيس المنتخب نفسه من صلاحيات. وبخلاف هذا الإعلان الدستور المكمل والذي يسميه المصريون الإعلان المكبل، قام المجلس بعدد آخر من الخطوات التي فاقمت من الشكوك في نواياه، فقد اتخذ قرارا بحل البرلمان بذريعة صدور قرار من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية بعض مواد قانون انتخاب أعضائه، كما أصدر قانون الضبطية القضائية الذي يعطي لرجال الجيش والمخابرات صفة الضبطية القضائية بالمخالفة للقانون. هذه الإجراءات وغيرها تقلل من حجم التطلعات المعقودة على الرئيس المنتخب، وتؤكد أن القلق الحقيقي الآن أن تخطو الثورة المصرية في طريق الثورة الأوكرانية، بل إن الإيقاع بالرئيس المنتخب في الحالة المصرية يبدو أسهل، وذلك في ضوء أنه سيبدأ ولايته وهو منزوع الكثير من الصلاحيات كما أنه سيستهل عهده وهو مقيد بقرار حل البرلمان الذي كان حزبه يمتلك الأغلبية فيه، فهل سينجح الرئيس المنتخب في مواجهة هذه الترتيبات العكسية بأن يفك خيوط شبكة التآمر التي تحيط به مستغلا حالة الفوران الشعبي التي صاحبت انتخابه أم أن حسابات الواقعية السياسية ستجبره على القبول بالتوازنات القائمة أملاً أن يغيرها متى واتته الفرصة في المستقبل القريب أو البعيد؟