17 سبتمبر 2025

تسجيل

خطاب الأسد و"توضيحات" المعلم

27 يونيو 2011

النظام السوري حصل على فرص كثيرة للإصلاح لكنه تمسك بطابعه العدواني قبل ساعات من خطاب الرئيس بشار الأسد يوم 20 يونيو كانت التوقعات عالية جداً، وهي لم تأت من فراغ، بل من اتصالات كثيرة علنية وسرية تركت عند العديد من المراقبين والمعنيين في الخارج انطباعاً بأن النظام السوري توصل بعد مائة يوم على الاحتجاجات، إلى قناعات جديدة وإلى خريطة طريق للخروج من الأزمة، واقعياً، لا يزال الاعتماد عليه رغم كل الكلام عن فقده الشرعية أو المصداقية، فالبدائل لم تنضج أو تتبلور، بمعزل عما إذا كانت تثير المخاوف أو توحي بالثقة، إذ ليس سراً أن أهم نقطة ضعف لدى المعارضة أنها غير منظمة وغير موحدة وبالتالي غير جاهزة لاستلام الدفة. كما ليس سراً أيضا أن النظام نفسه اهتز وفقد الكثير من قوته التي كانت معتمدة فقط على التخويف والترهيب، ثم إنه لا ينفك يعمق مأزقه، باستخدامه المفرط للعنف وعدم اعترافه بحقيقة الأزمة. كان اللواء حسن توركماني قد زار أنقرة قبل أيام من خطاب الأسد، وسمع وتبلغ مباشرة من كبار المسؤولين الخارجين لتوهم من انتخابات منحتهم تفويضا جديدا أنهم لا يستطيعون السكوت عما يجري في سوريا، وأنهم مستعدون لمساعدة النظام إذا كان يريد مساعدة نفسه، ولأجل ذلك ينبغي أن يوضح علنا ما هو برنامجه للإصلاح وكيف يخطط لتنفيذه وما هي الخطوات التي ينويها لبناء الثقة مع شعبه أولاً ومع الأطراف الخارجية ثانيا، وكان الأتراك قد قدموا أكثر من ورقة اقتراحات نوقشت مسبقا مع الأمريكيين لكنهم فوجئوا بأن "الشريك الإستراتيجي" السوري لم يعطها أي أهمية بل أبلغهم أنه يعرف بلاده وشعبه أكثر منهم وأنه يعد خططه لمعالجة الأزمة وسيعلنها، ما لم يتمكن اللواء توركماني من تحقيقه هو إقناع الأتراك بالتعاون مع السلطات السورية لإعادة النازحين من جسر الشعور وجوارها، علما بأن هؤلاء لم يكونوا قد اجتازوا خط الحدود بعد وإنما في المنطقة الواقعة بين الحدود. إذ سأل الأتراك عن الضمانات لعدم التعرض لهم وطلبوا تعهدات ثم إنهم لفتوا المسؤول السوري إلى أن تركيا لا تحتجز النازحين بل تستقبلهم ولا تمنعهم من العودة سوى الأسباب التي دعتهم إلى القرار. كان بإمكان خطاب الأسد أن يعيد هؤلاء النازحين، خصوصا أن دمشق أرادت تجنب استخدام قضيتهم كثغرة ينفذ منها التدخل الخارجي أو تدويل الأزمة، لكن التصنيف الذي تبرع به الرئيس لمواطنيه المحتجين (أصحاب مطالب، أو مرتكبو مخالفات قانونية، أدارها بيون)، كسر أي أمل في بناء الثقة، أي أن الرئيس لم يعترف بوجود مشكلة بين الشعب والنظام وإنما بين النظام و "المخربين" ورغم أنه انتهى إلى استنتاج بوجوب الإصلاح، مشيراً إلى قانوني الأحزاب والإعلام وإلى الحوار كـ"شعار للمرحلة المقبلة" وحتى إلى إمكان تعديل الدستور أو الحاجة إلى دستور جديد، إلا أن الفهم العام لفحوى خطابه أنه لم يتزحزح عن منطلقات خطابه الكارثي السابق في مجلس الشعب وإنما أجرى عليه بعض التنقيح دون أن يظهر أنه أخذ علما بمطالب الشعب أو أنه سمع شيئا عن الحرية والكرامة والعدالة فضلا عن الديموقراطية. لذلك لم يفهم أحد ما الذي قدمه، فحتى "العفو العام" الذي كان أهدره وأعاد إصداره لم يبد أنه خفض عدد المعتقلين بسبب الاحتجاجات، فبعد ساعات على الخطاب سجلت اعتقالات جديدة، أما إشارته إلى ضرورة الوصول إلى فصل بين الأجهزة الأمنية ومجريات السياسة فبدت أشبه بالحديث عن "أحلام" قد تتحقق وقد لا تتحقق، لأن الحديث هنا عن منظومة بنيت على التسلط والاستخفاف بكرامة الناس واعتبار المواطن عدواً ومضى عليها زمن وهي تمارس الانتهاكات دون أن تكون هناك قوانين تحاسبها أو تضع لها ضوابط، ويدرك النظام جيدا أن جانبا كبيرا من غضب المواطنين وثورتهم يعزى إلى ممارسات الأجهزة الأمنية، ولطالما اعتمد النظام عليها للحفاظ على سطوته وضمان استمراره. ورغم أن الأسد قال بالعربية الفصحى إنه يريد حلا سياسيا إلا أن أحدا لم يسمع منه أن "الحل الأمني" استنفد أو أنه في صدد التخلي عنه، تحدث مداورة عن التغيير إلا أن فحوى الخطاب كانت بالغة الوضوح في تأكيد أن النظام باق وأنه سيعطي الدروس للآخرين ولا يتلقاها منهم، وبذلك كان يقصد تركيا بطبيعة الحال، لكن من غير المعروف أي دروس سيعطيها طالما أنه لم يعد قادرا على التفاهم مع شعبه، وليس مستغربا أن يكون كلامه عن "الجراثيم" وضرورة القضاء عليها لتأمين مناعة الجسم قد ظهر في اللافتات التي رفعها المتظاهرون في "جمعة سقوط الشرعية" فالمواطنون شاءوا تسجيل الإهانة التي وجهها إليهم. ما لم يقله الرئيس تولاه وزير الخارجية، وعدا أن وليد المعلم اعتبر أن أوروبا "بسبب عقوباتها للنظام" لم تعد على الخريطة مؤكداً أن "الكلاب تنبح والقافلة تسير" إلا أنه تمكن من الكلام بوضوح: فالمطلوب وقف التظاهر والاحتجاج، والذهاب إلى الحوار "لاختبار جدية" النظام، المطلوب هدنة حوار. لاشك أن الوزير يعرف أن الحوار يتطلب تكافؤا وحدا أدنى من الثقة، وأي حوار برعاية النظام أو تحت سقفه لابد أن يكون محكوما بالمحرمات وأهمها البحث في تصويب أوضاع المؤسستين العسكرية والأمنية، وأي هدنة من شأنها إعادة أجواء الخوف والصمت، بل وستكون فرصة تنتهزها الأجهزة لاستكمال اعتداءاتها، تنكيلاً واعتقالات، بعيداً عن ضغوط التظاهرات لا يستطيع الشعب أن يغامر بالتضحيات الجسيمة التي قدمتها من أجل "حوار" يدار من الفرق الخلفية ويهدف في نهاية المطاف إلى "تسوية" تديم النظام بشكل أو بآخر، هذه اللعبة ليست مكشوفة فحسب وإنما ترمي فقط إلى تمرير المرحلة عن طريق التذاكي. واقع الأمر أن النظام طرح خياراً صائباً هو الحوار، لكنه نسي أن عليه قبل كل شيء إثبات تصميمه على أن يكون التغيير سلمياً، بل نسي خصوصاً أن الحوار يحتاج إلى مقدمات ينبغي توفيرها وقد نبه إليها الأتراك مراراً لكنه يرفض تلقي الدروس، وكان عليه أن يتعلم مما شهده في مصر وتونس، وحتى في اليمن وليبيا، بدل أن يتمترس وراء فكرة أنه نظام مختلف أو يتمتع بـ"استثناء" يحصنه. وأهم تلك المقدمات أن يفصح في الوقت المبكر المناسب عن نياته بالنسبة إلى التغيير والإصلاح، ولكي ينجح ذلك وتكون له مصداقية ينبغي الإحجام عن سفك الدماء واحتقار الناس. عملياً في هذا الوقت المناسب منذ اليوم الأول عندما ارتكبت الأعمال الوحشية المريعة ضد أطفال درعا.. ورغم أن النظام أعطي الفرصة تلو الأخرى إلا أن طبعه العدواني تغلب على تطبعه مع تغير الأحوال.