11 سبتمبر 2025
تسجيلأتناول التأثيرات المحتملة للحرب الروسية الأوكرانية على العالم العربي من محورين هما الأمن الغذائي والطاقة. فالدول العربية لا تنتج غذاءها وجميعها مستورد للغذاء، ولكن هناك مصدرين ومستوردين للطاقة، وهناك تأثيران متضادان للحرب على هاتين المجموعتين. ويمكن القول إن الدول المصدرة للطاقة ستستفيد من ارتفاع أسعارها، وهي في وضع نسبي أفضل من حيث مؤشرات أمنها الغذائي، وتنوع مصادر استيراد الغذاء ونظم تخزينه، بالإضافة إلى أوضاعها المالية الأفضل للإيفاء باحتياجات السكان، ما عدا العراق وليبيا اللتين تعانيان من عدم استقرار سياسي. أما المجموعة المستوردة للطاقة، فقد تصاب بصدمة مزدوجة، من حيث ارتفاع أسعارالغذاء والطاقة، وربما نقص الامدادات من الأول، وهي تعاني من قصور في أنظمة التخزين وأقل تصنيفاً على مؤشرات الأمن الغذائي، وبعضها يعاني أساسا من اضطرابات داخلية وعدم استقرار، مثل لبنان، وسوريا، وتونس، والسودان، واليمن، والصومال. هل تشكل الحرب الروسية الأوكرانية تهديدا للأمن الغذائي العربي؟ هناك فجوة غذائية وعجز غذائي عربي متنام منذ فترة طويلة يتم سداده بالاستيراد من الخارج، وهناك تركز في الاستيراد من روسيا وأوكرانيا. فتشير الإحصاءات إلى أن قيمة الصادرات الغذائية الرئيسية العربية تبلغ نحو 16 مليار دولار، مقابل 61 مليارا واردت، بفارق 45 مليار دولار، وتستورد الدول العربية من الخارج ما نسبته % 63 من احتياجاتها من القمح، و% 75 من الذرة، و %65 من السكر، و %55 من كل من الأرز والزيوت النباتية، و %30 من اللحوم، وتستحوذ على ربع صادرات القمح العالمية ولا تنتج سوى %2.5 من الحبوب على مستوى العالم، ومصر هي المستورد الأول للقمح عالمياً بنسبة %11، إذ تستهلك 18 مليون طن سنويا، تستورد منها 13 مليون طن، بعد أن كانت سلة غذاء العالم العربي، ومصدراً رئيسيا للقمح، وروسيا هي المصدر الأول للقمح، وأوكرانيا الخامسة عالميا، والبلدان يشكلان نحو ربع وثلث الإنتاج والصادرات العالمية منه على التوالي، و%80 من صادرات الزيوت العالمية. وتستورد الدول العربية نحو %40، و %42 من القمح الاوكراني والروسي على التوالي، وهناك قصور في أنظمة التخزين لديها. وبالتالي هي عرضة للأزمات وتقطع سلاسل الإمداد وارتفاعات الأسعار، خصوصاً منها دول المغرب العربي ومصر والسودان، وسوريا ولبنان، والضفة الغربية، واليمن. أما دول الخليج، فتستورد نحو %90 من مواردها الغذائية، ولكن مصادر استيرادها أكثر تنوعا، ولديها نظم تخزين أفضل، وبالتالي هي في وضع نسبي أفضل من بقية الدول العربية، وتأتي قطر الأولى عربيا على مؤشر الأمن الغذائي العالمي، ولا شك أن قطر استفادت من تجربة الحصار، فنوعت مصادر الامداد، ووسعت الطاقات الاستيعابية لأغراض الامن الغذائي والامداد اللوجستي، ودعمت الإنتاج الحيواني والزراعي المحلي، فآتى ذلك أكلة الآن، فرب ضارة نافعة. وفي الأجل القصير، يمكن تحويل خطوط الإمداد إلى مصادر بديلة، ولكن الأسعار سترتفع (وقد ارتفعت أسعار القمح بنسبة %50، وقس على غيره من الحبوب، والأسمدة بنسبة %300 حتى الآن)، فهناك توقف في الإنتاج وعقبات لوجستية بسبب الحرب، إضافة إلى اتخاذ دول أخرى منتجة تدابير بخفض صادراتها لمواجهة ارتفاع الأسعار) وسيخلق ذلك ضغوطات كبيرة على موازنات وموارد هذه الدول، بالإضافة إلى ضغوطات ارتفاع أسعار الطاقة على الدول المستورده لها، وسترتفع فواتير الاستيراد والدعوم عليها، ولو طال أمد الحرب، وحدث تقطع أو نقص في الإمدادات، أو ارتفاعات كبيرة في الأسعار فقد يخل ذلك بالتزامات هذه الدول بتوفير المواد الأساسية والأمن الغذاء لشعوبها، وقد يؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي فيها. الفشل والفساد إنه لأمر معيب حقا ويدل على فشل ذريع في السياسات في هذه الدول، فإشكالية الأمن الغذائي العربي مزمنة، ويبدو أن الأنظمة لا تتعلم من تجارب الماضي، والأزمات السابقة، لا المتأخر منها، كالأزمة المالية العالمية عام 2008، وأزمة كورونا، وثورات الربيع العربي، ولا ثورات الخبز قبلها. فلا يوجد نقص لدى هذه الدول في مقومات الإنتاج الزراعي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، لا من حيث الأراضي الزراعية، ولا الأيدي العاملة، ولا رؤوس الأموال، ولكنها تعاني من سوء التخطيط والإدارة، والفساد، التي تبقيها عرضة في قوتها لتقلبات الأسواق العالمية، والابتزاز والأوضاع الجيوسياسية والحروب، وإن لم يكن لها فيها لا ناقة ولا جمل. إن أمة لا تزرع غذاءها، وهي تستطيع، هي أمة مفرطة، وعليها تحمل تكلفة ذلك باهظاً عاجلاً أو آجلاً، وإن أنظمة لا تؤمن غذاء ودواء شعوبها وهي تستطيع، هي أنظمة فاشلة فاسدة، لا تستحق البقاء على الكرسي ولا ليوم واحد. وتشير الإحصاءات إلى أن المساحة الصالحة للزراعة في الوطن تساوي مليوني كم مربع، أي نحو %15 من مساحة الوطن العربي البالغة 13.5 مليون كم مربع، وهي مساحات شاسعة، في السودان، وسوريا، والعراق، ومصر، والمغرب، والجزائر، وتقارب مساحة المملكة العربية السعودية، ولكن المستغل منها نحو الثلث فقط، ولا تساهم إلا بما نسبته %2.5 من انتاج الحبوب، و%4 من الإنتاج الزراعي العالمي. أين الخلل وما هو الحل؟ سيقال إنه: التصحر، والنمو السكاني، والزحف العمراني، وسوء التخطيط والتخزين، وانخفاض الدعوم، وارتفاع الضرائب والرسوم، وضعف البنى التحتية، والتعاون العربي، واستخدام التكنولوجيا... إلخ. وسأختصر كل ذلك في كلمتين: إنه الفساد والفشل. فساد الأنظمة وفشل السياسات. فهناك سوء تخطيط وسوء إدارة، وفساد. وإلا فما هو دور الحكومات؟ أليس التنبؤ، ووضع الخطط والحلول؟ مع أن الأشكالات التي نتحدث عنها حقائق وواقع يعاش، وليس بحاجة لتنبؤات! فمطلوب أولا مكافحة الفساد، وإصلاح الأراضي وتفكيك نظام الإقطاع المتنامي، والاحتكار، وتنمية البنى التحتية – من مواصلات، وكهرباء، ومياه، والاستغلال الأمثل للأراضي الزراعية والموارد المائية، وتوظيف التكنولوجيا، وتبني سياسات سليمة محفزة للإنتاج الزراعي، من تمويل، ودعم، وحماية، وشراء وتسويق، وليس سياسات ضريبية ورسوم طاردة ترهق كاهل المنتجين. على الحكومات تبني الإنتاج لأغراض الأمن الغذائي من ألفه إلى يائه حتى يقف على قدميه، هذا على المستوى الوطني، ولكن لابد أيضا من التعاون والتكامل على المستوى العربي. فالدول العربية متفرقة لديها اختصاصات متنوعة، فهناك المتخصص في الطاقة ولديه رؤوس الأموال، وهناك من لديه الأيدي العاملة والأراضي الزراعية الخصبة، والأسواق، وهكذا، ولكنها عندما تجتمع وتتعاون، يكمل بعضها بعضا بما لدى كل طرف من ميزات نسبية لا تتوفر لدى الآخر، ويتم استغلال أفضل للموارد. ويبدو أن هذا هو قدرها الذي لا مفر منه، وهي وحتميته الجغرافيا والتاريخ، ولكن الدول العربية لا يوجد لديها نظرة إستراتيجية، ولا هدف وحدوي تجتمع عليه ويحقق لها مكاسب إستراتيجية، أو يدفع عنها مخاطر مشتركة قد تزعزع استقرارها وتهدد أمنها الجماعي والفردي، وعوضا عن ذلك هي متنافسة، متناحرة، يطمع بعضها في الآخر، والثقة بينها ضعيفة أو مفقودة. ونحن هنا لا نطلب وحدة سياسية تلغي الأنظمة، ولا نطمع في ذلك، ولكن تنحية السياسة، بخلافاتها، جانبا، والتعاون على درء ما فيه تهديد مشترك للأمن الجماعي العربي، ومنها المجال الزراعي الأمن الغذائي والمائي، ويمكن تدعيم ذلك بعقود وضمانات قانونية دولية ملزمة. وهناك مثال في هذا السياق، وهو استمرار تمويل الغاز القطري للإمارات إبان ذروة الخلاف بينهما أثناء الأزمة الخليجية. وهناك مثال آخر، فقد خطت المملكة العربية السعودية خطوات واسعة في مجال الأمن الغذائي وحققت اكتفاء ذاتيا في إنتاج القمح في مرحلة من المراحل، وأصبحت المملكة الصحراوية تصدر لمصر النيل الزراعية، ثم أتى من أتى وقال إن ذلك غير مجد لأنه يمكن استيراد القمح بأسعار أرخص من خارج المملكة، فألغي المشروع، وهل شراء الحكومة الأمريكية للحبوب من المزارعين ورميها في البحر مجد اقتصادياً؟ إن هذه سلعة إستراتيجية، وهناك بعد أمني إستراتيجي يجب أخذه في الحسبان. ويذكر د. عبدالله النفسي أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كسنجر، حاول إقناع الملك فيصل بالاستغناء عن زراعة القمح، ولكنه أخفق في ذلك. إدارة الطفرة واستثمار الفوائض وإذا كانت الدول المستوردة للطاقة قد تتعرض لضغوطات هائلة لاحتمال تقطع إمدادات الغذاء وارتفاع فواتير استيراد ودعم الغذاء والطاقة، فإن الدول المصدرة للطاقة ستكون في وضع أفضل. فلو استمر ارتفاع الأسعار لفترة كافية، ستتحول موازينها الداخلية والخارجية إلى فوائض، وسيمكنها ذلك من زيادة الإنفاق ودعم النشاط والنمو في اقتصاداتها الآخذة في التعافي من أزمة كورونا. ولكن هل تستغل الفوائض بالشكل الأمثل؟ هل تراكم وتستثمر العوائد للتحوط لانهيارات أسعار النفط المستقبلية، وإدارة الدورة الاقتصادية بسلاسة أكبر أثناء دورات الانكماش، وتجنب السياسات التقشفية الحادة، والضريبة غير الشعبية، والاقتراض الذي يزاحم القطاع الخاص، وجميعها يعمق ويطيل أمد الانكماش أثناء فترات انهيار أسعار النفط. هل تستثمر بنجاح في بناء رأس المال البشري، والتنمية الصناعية والتكنولوجية، وتنويع الاقتصادات، ورفاهية المواطن؟ أم تهدر هنا وهناك، وتنفق على شراء أسلحة لا طائل منها، وفساد، وتمويل ثورات مضادة وتثبيت أنظمة دكتاتورية فاسدة؟ وإذا كانت الأنظمة المصدرة للنفط، بقيادة الخليجية منها خصوصا، ترى في ثورات الربيع العربي تهديداً لاستقرارها، باحتمال انتقال العدوى إليها، مما دفعها إلى توظيف مواردها النفطية لتمويل ثورات مضادة لقمع ثورات التحرر العربي من أنظمة دكتاتورية فشلت عبر عقود في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والعيش الكريم لشعوبها، أليس الأحرى بها أن تسهم في تحقيق الاستقرار في أخواتها الدكتاتوريات الأخريات، من خلال الاستثمار في تعزيز أمنها الغذائي؟ وهي بذلك تحقق هدفين: تعزيز الاستقرار في أخواتها الدكتاتوريات (وبطريقة مشروعة) من خلال تعزيز أمنها الغذائي، وبالتالي تقليص احتمالات اندلاع ثورات خبز أو غلاء معيشة في تلك الدول، وانتقال العدوى إليها أو التأثر بها سلباً، ثم إنها تسهم في تحقيق أمنها الغذائي هي من خلال استثماراتها في محيطها الزراعي العربي، والتكامل معها في مجال الإنتاج الزراعي. فلم لا يكون للأمن الغذائي العربي نصيب من استثمارات العرب الخارجية؟ ولكن لو نظرنا إلى تجارب الماضي، نرى بعد كل طفرة نفطية كبرى تراكم فيها هذه الدول الاحتياطيات، أنها تستنزف على أزمات وحروب كثير منها مفتعل. حدث ذلك بعد صدمة النفط الأولى في بداية السبعينيات باندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي أحرقت الأخضر واليابس، ثم بعدها حروب الخليج، وإنفاق المليارات على تسليح العراق، ثم على نزع أسلحته، ثم أتت ثورات الربيع العربي، والثورات المضادة، وصفقات الأسلحة الكبرى بعد طفرة النفط العقد الماضي. وهكذا، كأن الغرب يريد استرداد أموال النفط بطريقة أو بأخرى. * متخصص في السياسة النقدية وعلم الاقتصاد السياسي مركز الاقتصاد الكلي ومعهد الفكر الاقتصادي المستجد بجامعة كامبردج البريطانية