18 سبتمبر 2025

تسجيل

الذكاء الاصطناعي.. أبعد من قضية نقاش

27 مارس 2023

أدت التطورات الكبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) على مدى العشرية المنصرمة إلى ظهور العديد من المناقشات حول التأثيرات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية المحتملة لهذه الثورة التقنية، حتى غدا سلاحاً يتم توظيفه في علاقات الدول ومحط تنافسِ بينها. إذ يمثل الذكاء الاصطناعي أحد أهم وأخطر إفرازات الثورة التكنولوجية الرقمية التي توهجت في العصر المعلوماتي (الثورة الصناعية الرابعة) نتيجة لما انبثق عنها من تطبيقات ذكية أثّرت في مختلف مناحي الحياة، فأهم ما يميز هذه الثورة (التي نعيش في بدايتها) بأنها توفر التقنيات التي تجعل الإنسان قادراً على صناعة الذكاء الاصطناعي، من خلال توظيف خدمات الإنترنت، والروبوتات، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والواقع الافتراضي، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء... التي أحدثت العديد من التغييرات الواسعة النطاق في حياة البشرية. وبعيداً عن الخوض في افتقار هذا الجانب للأطر والتشريعات القانونية والأخلاقية، وفوائد هذا التطور في أتمتة التعاون بين أنظمة الأعمال المختلفة وتسهيل المهام الشاقة للمؤسسات وتطبيقاته المتعددة في الطب والتعليم والاتصالات؛ فإنّ انتشار الذكاء الاصطناعي أدى في كثير من المجالات إلى طفرة حقيقية نلمسها في حياة الرفاهية للإنسان في الوقت الراهن. كثيرٌ من المفكرين ومنهم كسينجر في كتابه المشترك «عصر الذكاء الاصطناعي: ومستقبل الإنسان» الصادر في نوفمبر 2021، يدرك وآخرون حجم التحدي الهائل الذي تفرضه التقنية الرقمية بصفة عامة، والذكاء الاصطناعي بصفة خاصة على المفاهيم المتجذرة عبر القرون سيما على مفهوم القوة، وتأثير الذكاء الاصطناعي على التقينات العسكرية مثل الأسلحة السيبرانية المعززة بهذا الجانب. ومع ذلك، فقد تم إيلاء القليل من الاهتمام المستمر لتأثير الذكاء الاصطناعي على العلاقات الدولية أو كيفية تأثير التكنولوجيا على عمل واضعي السياسات وصناع القرار. اليوم تجري النقاشات حول تأثير الذكاء الاصطناعي في مفهوم العلاقات الدولية والعملية السياسية والدبلوماسية. فقد أثار بدء التعلم العميق والشبكات العصبية في أواخر العقدين الماضيين موجة جديدة من الاهتمام بالذكاء الاصطناعي وزيادة الإيجابية في إمكانية تنفيذه في عدد من الأنشطة، بما في ذلك السياسة الخارجية وتطبيقه على مجموعة واسعة من الأنشطة القنصلية والدبلوماسية وفي أجندة ذات موضوعات واسعة متباينة التخصصات تتراوح بين الاقتصاد والأعمال، والأمن، وصولاً إلى ترسيخ ونشر مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. صحيح أن موضوع الذكاء الاصطناعي مازال محل نقاش كبير بين الخبراء والعلماء، لكنه من المتوقع أن يصبح أحد التقنيات الرئيسة في القرن الحادي والعشرين التي يمكن أن تؤثر على الطريقة التي تُدار بها العلاقات بين الدول وتوفر أدوات في الدبلوماسية والسياسات الخارجية والعالمية وتعزيز أهمية القوة «الناعمة» في خطاب تلك الدول من خلال عدة مستويات تتمثل في توزيع مهارات إدارة المعلومات، والميزة الاقتصادية التنافسية وكذلك جمع المعلومات الإستراتيجية والاستخبارية وتحليلها. اليوم نرى محاولات لإدخال الذكاء الاصطناعي في عملية تقييم العلاقات بين الدول، والإسهام في عملية صنع القرار المبني على الكم الهائل من المعلومات وجداول التحليل. الصين بهذا الجانب خطت خطوة متقدمة في توظيف تقينات الذكاء الاصطناعي في مجال العلاقات الدولية؛ عندما قرر الرئيس الصيني «شي جين بينغ» إدخال جدول أعمال الذكاء الاصطناعي في السياسة الخارجية لبلده، داعياً إلى فتح آفاق جديدة في الدبلوماسية بالاعتماد على هذه التقينات الفائقة التطو. وبدأت البرامج التي أنشأتها الحكومة الصينية تأخذ زخماً كبيراً من المعلومات بهذا الشأن حتى تداول الأخبار حول الإعلان عن أول سفير لها في هذا العالم الافتراضي «ريبوتاً». المعروف أن الصين كانت سباقة في اعتماد تقنية الذكاء الاصطناعي ولديها «خطة الجيل الجديد» لتكون رائدة العالم في هذا المجال بحلول عام 2030، واستخدمت الصين نظام «وو داو» (Wu Dao)، الذي يحاول محاكاة الدماغ البشري وشكّل قفزة في عالم التعلم الآلي، وجعل قدرات الصين في مجال الذكاء الاصطناعي تتفوق على مثيلاتها في العالم. وهذا النظام يأتي في قلب سياسة الصين لجعل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي جوهر خطتها التكنولوجية والاقتصادية التي أعلنتها أول مرة سنة 2017، وهي الخطة التي أثارت قلق الحكومات الغربية بشأن الاستخدامات غير المشروعة لتقنية الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل المراقبة والحروب، لا سيما أن هذه التقنية باتت تثير حماس المستثمرين، الذين يريدون انتهاز الفرص التجارية الضخمة التي تقدمها هذه التقنية. كما توصل السياسيون والباحثون في الصين للتفكير في الذكاء الاصطناعي كمساعد في صنع القرار اليومي بحيث يمكن أن يقدم المدخلات والاقتراحات والتوصيات في غضون ثوانٍ. المثير قيام الأكاديمية الصينية للعلوم ببناء خوارزميات التعلم الآلي التي يتم تنفيذها واستخدامها في وزارة الشؤون الخارجية. عود على بدء، فإن “الروبوتات” التي بدأت في أعمال بسيطة، كالعمل في المطاعم والمقاهي والأسواق والمطارات والمستشفيات.. ومشاركة الروبوتات في التحكيم الرياضي..وتنبؤات الذكاء الاصطناعي بمن سيفوز من عدمه، بدأنا نشاهد هذه الروبوتات تحتل مقاعد الدبلوماسيين في المنظمات الدولية كما هو حاصل في الصين، ولا يستبعد مراقبون أن يكون لها دور مستقبلا في صناعة العديد من القرارات، وتحديد مصائر الشعوب. إنّ الذكاء الاصطناعي (الذي من المتوقع يكسر نمو الإيرادات العالمية فيه حاجز 500 مليار دولار في عام 2023) لم يعد قضية اقتصادية بحتة، بل أيضا أداة سيطرة وهيمنة وبات جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ابتداءً من مساعدتنا في التنقل في المدن وتجنب زحمة المرور، وصولاً إلى استخدام مساعدين افتراضيين للمساعدة في أداء المهام واتخاذ القرار القرارات والمفاضلة بينها.