29 أكتوبر 2025
تسجيلبعد الهجوم الإرهابي على متحف باردو يوم الأربعاء الماضي، والذي شكل كارثة حقيقية على البلاد، لجهة أن الإرهاب الداعشي بات يشن الحرب المعلنة على تونس، طرح الرئيس الجمهورية التونسية السيد الباجي قائد السبسي في خطابه بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ59 لاستقلال تونس، التي تصادف يوم 20مارس الجاري، مسألة في غاية الأهمية، تتعلق بمشروع قانون للعفو والمصالحة الوطنية. ويهدف هذا المشروع حسب ما أوضحه المستشار السياسي لرئيس الدولة محسن مرزوق إلى إحداث إصلاحات هيكلية وجوهرية «مؤلمة» قصد تحقيق العفو والمصالحة السياسية الشاملة، كما يرمي هذا القانون إلى المصالحة الاقتصادية من خلال النظر في ملف رجال الأعمال والعفو عن الأموال بالخارج وأيضا مصالحة التونسي مع العمل.. وسيشمل هذا الإصلاح القطاع البنكي والصحي والتربوي... إن التركيز على موضوع المصالحة الوطنية في هذا الظرف السياسي والتاريخي التي تمر به تونس، ليس بريئاً لأسباب داخلية وأخرى خارجية. فحزب «نداء تونس» وزعيمه التاريخي السيد الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية يقع في نفس الخطأ التاريخي الذي وقعت فيه حركة النهضة الإسلامية عندما استلمت السلطة عقب انتخابات 23أكتوبر 2011، وهو عدم إدراك أن الشعب التونسي الذي صنع ثورته، وأسقط النظام الديكتاتوري السابق، يحتاج إلى بناء دولة ديمقراطية تعددية، وخلق مجتمع جديد، وانتهاج خيار اقتصادي واجتماعي جديد يجسد القطيعة مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، والتي أدّت في الواقع إلى إثراء أقلية من العائلات المرتبطة بالسلطة، وكبار رجال الأعمال على حساب إفقار معظم طبقات الشعب التونسي، بما فيها الطبقة المتوسطة، التي تعتبر أكبر طبقة اجتماعية موجودة في تونس. لكن رؤية رئيس الجمهورية للمصالحة الوطنية تقوم على طي الملفات الكبرى التي لا تزال موضوع خلاف في المجتمع التونسي، بين فئة رجال الأعمال في العهد السابق المتهمين بالفساد والإثراء الفاحش في العهد الديكتاتوري السابق، والذين في معظمهم ينتمون إلى «حزب التجمع » المنحل، وفي الانتخابات الأخيرة ركبوا موجة «حزب النداء» الذي أصبح حاكما في البلاد، وبين طبقة سياسية جديدة استولت على السلطة بعد انتخابات23 أكتوبر 2011، وأصبحت تلقب بطبقة الأثرياء الجدد، والتي لم يكن لها نظرية للاقتصاد، بل هي انساقت في نهج الليبرالية الجديدة التي سقطت في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي غيرها من الدول الرأسمالية الغربية عقب وقوع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية عام 2008، ولم تقم بمراجعة نقدية للنموذج الرأسمالي الطفيلي الذي كان سائداً في تونس، حيث وصل إلى مأزقه المحتوم، وأسهمت سياساتها في التساهل والتغاضي عن تنامي ظاهرة الإرهاب الذي استوطن في تونس. فهناك أطراف ستستفيد من هذه المصالحة الوطنية، وهي من دون شك فئة رجال الأعمال الذين سيعودون إلى أعمالهم من دون محاسبة في انتظار أن يقول القضاء كلمته، وفئة السياسيين والأمنيين الذين ارتكبوا خطايا في إدارة البلاد ولا عتب عليهم بعد اليوم، حيث تعهد رئيس الجمهورية لهم حتى بالاحترام الحرفي والالتزام الكامل بكل ما اتفقوا عليه مع الآخرين، والمقصود بالتأكيد الأشقاء في ليبيا والعلاقات مع تركيا وقطر، وهو ما سمّاه سيادة الرئيس باستمرارية الدولة وإيفائها بتعهدات الحكومات السابقة دون استثناء. أما المتضررون من هذه المصالحة، فهم بكل تأكيد، الطبقات الشعبية والفقيرة والعاطلون عن العمل، والمساجين السياسيون السابقون في عهدي الديكتاتورية السابقة، لأنهم هم وحدهم من سيدفع الثمن، بلا شك، سواء في مزيد ارتفاع الأسعار والمعيشة، أو في تجمد الأجور، أو كذلك في تحمل نفقات الأمن، وفي تحمل تبعات مكافحة الإرهاب أيضا، بما قد يعنيه ذلك من تضييق على الحريات أو تراجع عن مكاسب التعبير والتنظّيم، على حدّ قول مثقف تونسي. يبقى أن أعظم جرائم نظام بن علي السابقة، تقع في الحقل الاقتصادي، وهنا يدور اختبار أساسي لتحقيق أهداف الثورة، والمصالحة الوطنية، فقد اتضح أن أوساط المال والأعمال مسؤولة جداً عن مساندتها للنظام السابق، وأسهمت في تعميق الهوة بين الفقراء والأغنياء. ومن هنا فإن تحصين الثورة يبدأ ليس بالإقصاء لطرف سياسي، لأن هذا الإقصاء جزء من عملية التطهير الستالينية الشمولية، بل يجب اعتماد ضريبة للنمو، تفرض استثنائياً على الشركات والمداخيل الخاصة، إضافة إلى ضرورة تطبيق قانون العدالة الجبائية على فئة كل رجال الأعمال مع مفعول رجعي على أرباح مؤسساتهم، وتوظيف هذه الأموال في استثمارات منتجة تخدم مشاريع التنمية في الولايات الفقيرة والمهمشة. فالحكام الجدد لتونس اليوم يتصورون أنّ الدولة لابدّ أن تكون مرتكزة على «المحاصصة» الحزبيّة، تُسيّر بمنطق العصبيّة والغنيمة والولاء لمن حازوا الشرعيّة ومثّلوا الأغلبيّة، من دون التفطن إلى خطورة التنكّر لوعود قطعوها حين صرّحوا أنّهم سيعملون جاهدين على تحقيق العدالة الاجتماعيّة والعدالة الانتقاليّة ومن ثمّ إرساء الدولة المدنيّة أو دولة المواطنة. من هنا نرى أن تحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية في تونس تحتاج إلى توافر عدد من الشروط، أهمها: 1- إن المصالحة الوطنية الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا بين طرفين أساسيين هما السلطة القائمة حالياً من جهة والمعارضة ومختلف مكونات المجتمع المدني، وبقايا النظام السابق، من جهة أخرى. وتقتضي تحقيق هذه المصالحة تشكيل لجنة البحث عن الحقيقة متكونة من رجال قانونيين مسؤولين يرشحهم مكونات المجتمع المدني في تونس، إضافة إلى شخصيات من السلطة الحاكمة التي تتمتع بالنزاهة والاستقامة ومن أنصار بناء دولة الحق والقانون. وعندما يلجأ المجتمع التونسي إلى المصالحة الوطنية، فإنه يريد طي صفحة الماضي الذي أنتج مآسي للجميع من قبل النظام السابق، والتي تمثلت في الاغتيالات السياسية، وعمليات التعذيب للمناضلين السياسيين في مراكز الأجهزة الأمنية والسجون، وعمليات الخطف والتعدي على الكرامة الإنسانية، والانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان. فالبدء بصفحة جديدة في المجتمع التونسي يجب أن يشارك فيها الجميع في عمليّة البناء. فقد عرفت تونس خمسة عقود من الصراعات السياسية والاجتماعية العنيفة، ووقعت عدة انتفاضات شعبية، وشهد البلد أول ثورة سياسية واجتماعية في عصر العولمة الليبرالية، وآن الأوان طيّ صفحة الحروب الداخليّة، والبدء ببناء دولة الحق والقانون على أساس العيش المشترك، بعد أن أذعن الجميع إلى أن حركة الصراع، مهما تطوّرت، فإنّها لا تقبل إلغاء أيّ طرف لآخر، أو حذفه من الدائرة المشتركة. ثم إن مشكلة المصالحة الوطنية في تونس،لا تزال تصطدم بالخطاب السياسي، وغير السياسي، الذي لا يزال سلطويا قمعيا يغلّب مصلحة السلطة والطبقة الحاكمة على مصلحة البلد، وغرائزياً يسحق العقل لمصلحة الغريزة، ومصلحيّاً يغلّف النفعيّة الذاتيّة الحزبية الضيقة بغلاف القيم، ومتكاذباً بصيغ أكثر حضاريّة من الماضي.2-إن طي صفحة الماضي لا يعني إلغاءها من ذاكرة الشعب التونسي نهائيّاً وكأنّ شيئاً لم يكن، فيُصبح فيها أبطال القمع وانتهاك حقوق الإنسان وكأنّهم كانوا أبطال البناء، ومرتكبو الجرائم قضاةَ العدل، وناشرو الفساد مصلحي البلاد والعباد.. كلاَّ. إنّ طي صفحة الماضي لابدّ أن يقوم على الاعتراف بكل حرفٍ ورد فيها، وتقويم كلّ ذلك على أساس القيم التي يُراد البناء عليها للمستقبل. وذلك يعني أن نعترف بالجرائم كما هي التي ارتكبها النظام السابق في حق الشعب التونسي، وكذلك الجرائم التي ارتكبت في ظل حكم الترويكا، وبالأوصاف كما كانت، وبالأحداث كما حصلت، من أجل مواجهة الحقيقة.