31 أكتوبر 2025
تسجيلدخلتُ مكتبها وإذا بها ممسكة بسماعة هاتفها، من نوع ايفون قرب أذنها اليسرى، تتحدث بصوت مشحون. تارة تصمت وتارة تبرر. جلستُ كعادتي أمامها، حتى أنهت مخابرتها، التي لم تكن بلا شك السّارة. حسب كل الحروف التي سقطت من فِيْها، وأنا بهدوء تام، أنتظر انتهاءها لتفرغ ما بجعبتها، متشوقة لسماع جميل سردها؛ لأتبين سبب غضبها الذي ظهر جليّا من بروز رقم ١١ بين حاجبيها. التفتت إلّي، وهي ُتلملِم الحروف لتشكو... تَصَوري ؟! يريدون شراء قطة !! قطة ؟ قطة ؟.كررتها وأكملت على ماذا سألحق؟على العمل وعودتي منه منهكة؟!، أم تنظيف البيت ؟ام متابعة القطة في أرجاء المنزل أنظف خلفها؟ استمعت إليها. وبعد أخذ ورد ومحاولة تبرير موقف أبنائها وتهدئتها على الرغم أني أخاف القطط، ولا أحبذ تواجدها نهائيا في المنازل. في اليوم التالي، رأيت صديقتي على خِلاف ما كانت عليه بعد أن بادرتني وصفا وجبينها الأغَرّ قد نَصَع وتَهلل وأنا كمن صُبّ على رأسه ثلجاً مجروشاً في ليلة شتوية، وقد تَيبَس الوجه وعجز الَفك عن الحراك محدّقة عيناي، أراها تفتح جوالها لتريني صورة القطة، وهي تقول: أرأيتِ جمالها؟ انظري لشعرها. تيقنت من الحديث، أن القطة باتت في المنزل دون أدنى شك. وأكملت وعلى محياها، ابتسامة كشفت عن تلك الثنية القابعة بين أسنان فكها السفلي، ثم قالت: سميتها ايفا. لحظتها، سافرتُ بذاكرتي وهي تصف وتشرح وتمجّد لتلك القطة. واستحضرت أشلاء من صور قديمة، انزوت في ذاكرة الطفولة، حين كنت في الصف الثاني الابتدائي عام ١٩٧٥ تحديدا. وقعت يداي الصغيرتان على مجلة، دسّتها إحدى زميلاتي في درج الطاولة الخشبي، التي كانت تتصل في تكوينها مع المقعد يجلس عليها ٣ من الطلاب، حتى إذا أراد الجالس بجانب الجدار مرورا، أحنينا ظهورنا وتقدمنا عن ظهر الكرسي ليمر ويطبع آثار اقدامه عليه. وكنت لا أحبذ هذه اللقطة بتاتا. الأدراج تصطف على جانبين في صفين يمنة ويسره، والمساحة الخالية تكون في الجانبين للحركة والعبور لغرفة صغيرة لا تتعدى مساحتها مترين ونصف في ثلاثة. وإذا كان الصف كبيرا يكون للوسط نصيب من الأدراج. سحبت المجلة من الدرج وقت شرح المعلمة. كانت فترة الدراسة حينذاك مسائية بطني متخمة بغداء أمي الذي ما إن أنهيته حتى توجهت للمدرسة راجلة مع من كان يحملني. كل ما أذكره تلك اليد الممتدة، التي أحكم قبضتي عليها وأنا لا تبارح عيناي الطريق الترابي الذي ينقلنا من اعوجاج وضيق إلى سعة بين البيوت الحواري، سالكين دروبا أقصر للوصول إلى المدرسة نبحث عن ظل جدران المنازل بعد أن تعدى قرص الشمس تعامده مع السماء لتنعكس ظلال الجدران الشرقية، وتتلاقى مع جدران المنازل المصطفة ؛ ليكسو الطريق ظلال وارفة تتخللها روائح الغداء وصوت أذان الظهر ساعتها وتدفق المصلين وأصوات ساكنيها وفي صور أخرى، تلك الحيوانات السائبة بين الكلاب والقطط وثغاء المواشي طالبة نصيبها من الطعام وأحيانا الدجاج والديكة التي تتقافز من سطوح الجدران القصيرة. ما إن فتحت المجلة بعد أن وضعتها بكل ثقة على الطاولة، وأنا أتصفحها غاب ذهني وعقلي وشرد مع تلك الأوراق التي لامست أصابعي لأول مرة مبهورة بما احتوت. رأيت صورة لامرأة جميلة على كرسي (شيزلون) ممددة جسدها على طوله، تضع يدها اليمنى على قطة بيضاء تجلس بجانبها يكسوها شعر كثيف منسدل تلف ذيلها على جسمها. العجيب أن عيون القطة والمرأة متطابقتان من حيث اللون زرقاوان وكلاهما يكتسي اللون الأبيض تمثل ذلك في لباس المرأة وفي شعر القطة الأبيض الناصع. حدقت كثيرا على القط وأحسبني أقارن بين ما أراه في الشارع وما رأيته في المجلة.عقلي الصغير لم يستوعب انها قطة وما أدهشني اني جلست أنقل نظري بين المعلمة وبين صورة المرأة، وأنا أقول في قرارة نفسي: إنها هي المعلمة!! سحبت يد زميلتي لتشاركني وأنا أشير إلى الصورة لتراها، انظري هذه الأبله. ضحكت زميلتي وشَدّت انتباه المعلمة التي كانت أمام الصف منشغلة بأخذ الغياب أو شيئا آخر لست أذكر فأتت وبيدها العصا التي لا تفارقها. لم أعط المعلمة فرصة السؤال فبادرتها بكل عفوية، وصفاء قلب ونية رافعة المجلة عن سطح الطاولة. انظري أبله هذه أنت. لم يكن الرد مشوقا، بقدر لهفتي لرؤية شبيهة معلمتي في الصورة وتعريفي بها وكأنني حملت لها خبرا حسبتها تنتظره. إلا ضربة في ساعدي الأيسر وسحب المجلة التي رأيت فيها القط الشيرازي لأول مرة. صحوت من سفري الذهني وأنا أتابع سناب صديقتي لأرى أيفا في كل حالات الجلوس والوقوف والنوم بكل وداعة مخالفة تصرفات قطط الشارع من جري واشتباك وصراخ ومواء. وأعطيت صديقتي كل العذر لتغير الحالة المزاجية السريعة بين الرفض والقبول لاقتناء القطة. قاطعت أفكاري وشرودي بابتسامة لطيفة، وقرة عين بانت ملامحها وهي توزع نظرها بيني وبين الهاتف وهي تقول: هل أخبرتك؟ سميتها ايفا. وعلى خلاف موقف معلمتي، تخيلت صديقتي وهي تجلس على الكرسي نفسه حاملة ايفا. عجبا ما أشبه اليوم بالبارحة. سلطنة عمان