22 سبتمبر 2025
تسجيلمهما كلف حل المعضلة الصومالية، إذا توافر مثل هذا الحل، فإنه سيكون بالتأكيد أقل من الكلفة التي باتت مترتبة على إهمال الوضع الحالي واعتماله سواء في الداخل أو في الخارج.. لعل هذا الاستنتاج هو ما دفع الحكومة البريطانية للدعوة إلى مؤتمر دولي بشأن الصومال، خصوصاً أن مشكلة الفرضة البحرية انطلاقاً من الشواطئ الصومالية تفاقمت وتسببت ولا تزال بخسائر كبيرة للدول والشركات، ثم إن مئات من الصوماليين حاملي جنسية بريطانيا ودول غربية أخرى انضموا إلى مقاتلي "حركة الشباب"، وأصبحوا كالباكستانيين من قبلهم، يشكلون خطراً محلياً بحكم ارتباط "الشباب" بتنظيم "القاعدة". لكن، مع ذلك، عقدت مؤتمرات تلو مؤتمرات، وبذلت محاولات تلو محاولات، لإعادة إحياء "الدولة"، في الصومال، ومن خلالها توطيد الأمن وإنهاض عجلة الاقتصاد وبالتالي استرجاع الحياة الطبيعية للشعب الصومالي شأنه شأن كل شعوب العالم، بمن فيهم الشعوب التي تعاني من أوضاع معيشية أو سياسية صعبة لكنها لم تشهد مثل هذه الفوضى المنفلتة التي يعيشها الصومال منذ اثنين وعشرين عاماً. ومعلوم طبعاً أن المؤتمرات والمحاولات لم تفلح في وضع هذا البلد على بداية الطريق إلى تطبيع أحواله، فهل ينجح مؤتمر لندن حيث فشلت ست عشرة محاولة سابقة بذلتها الأمم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي طوال العقدين المنصرمين؟ لابد من القول إن الأسوأ من اليأس هو عدم المحاولة، فالحكومة الانتقالية الموجودة حالياً لم تسقط رغم كل الضغوط التي تعرضت لها، تحديداً من جانب مجموعات كان متوقعاً أن تسندها، ثم أن الاتحاد الإفريقي الذي انخرط في مساعدتها استطاع أن يحقق لها بعض الأمان، أقله لابعاد المتطرفين عن العاصمة مقديشو وإجبار مقاتلي "الشباب" على الانسحاب بعيداً عنها، ولعل هذا التقدم الطفيف هو ما شجع مجلس الأمن الدولي على إقرار زيادة عديد "قوات حفظ السلام" التابعة للاتحاد الإفريقي، بغية توسيع رقعة انتشار سيطرة الحكومة، غير أن الأطراف الدولية سجلت وتسجل ان هذه الحكومة لا تزال تعاني من خلافات وعدم انسجام بين أطرافها، ما يشل فاعليتها أحيانا، ويضعف هيبتها وشرعيتها، علما بأن الجميع يتوقع منها أن تكون مؤهلة لجمع مكونات المجتمع الصومالي في حوار وطني لابد منه للشروع في أي حل سياسي يدعم السلم الأهلي ويحقق وفاقاً اجتماعيا تقوم على أساسه الدولة المستعادة. من الواضح أن حل ما أصبح يعرف بـ"المعضلة" الصومالية يحتاج إلى جملة عوامل، أولها أن يتوافر فريق حكومي يستند إلى حد أدنى من الثوابت الوطنية والعزم على استعادة البلد المضاع، ثانياً، أن تكون لهذا الفريق خطة واضحة ومتكاملة لكيفية الخروج من النفق الحالي، وهو ما عبر عنه الرئيس الصومالي شيخ شريف أحمد، إذ قال للمؤتمرين إن هناك قرارات دولية أخلوا بها أو أهملوها، وان هناك خريطة طريق صومالية لا يمكن تطبيقها إلا بدعم قوي وثابت. ثالثاً، استطراداً، لابد من دعم مالي وعسكري يعبر عن إرادة دولية صادقة بالسعي إلى إنهاء التجاذب الدولي والإقليمي حول الصومال، خصوصا أن التدخلات السابقة تحت العنوان "الإنساني" انتهت إلى تغذية الفوضى المحلية، ثم ان الانسحاب والاستقالة من الأزمة الصومالية ما لبث ان انتهيا بهذا البلد لأن يصبح بؤرة لـ"الإرهاب القاعدي" ما زاد في تعقيد مشكلته وحلولها. لعل أخطر ما طرأ خلال العقدين الماضيين أن القوى الإقليمية المحيطة بالصومال، والقوى الدولية من خلالها، ساهمت في شيوع الفوضى حين دعمت فصائل محلية ظنا منها أنها قد يعتمد عليها لفرض الامن ثم تبين أن الداعمين كانوا ولا يزالون يرتبون تعايشهم مع غياب الصومال عن الخريطة، فهذا الوضع الشاذ أراح اثيوبيا من خطر عودة مقديشو إلى المطالبة باقليم أوغادين الصومالي الذي ابتلعته وفرضت عليه حكما احتلاليا قاسيا، كما أن هذا الوضع أوجد للدول المجاورة ساحة تصدر اليها المتشددين ومع الوقت اصبحت الصومال مكانا تتصارع فيه هذه الدول بدل ان تخوض حروبا مباشرة فيما بينها، لذلك كان لافتا أن نرى في مؤتمر لندن أن اكثر الدول المتباكية على سوء الأوضاع في الصومال هي الدول المستفيدة من فوضاه، بل ان أبرز طموحات الصوماليين ان يكف الجيران عن صب الزيت على نار أزمتهم، كما أن ابرز مطالبهم ان تتوقف الاموال والاسلحة والاملاءات الموجهة الى المجموعات الصومالية المناوئة لعودة "الدولة". مع تصاعد خطري القرصنة البحرية والإرهاب القاعدي نشأ ما يشبه التنافس بين الجهات الخارجية التي تريد حل "المعضلة وبين تلك التي تفضل الاستفادة منها، صحيح أن هذين الخطرين أعادا التذكير بالمشكلة والاهتمام بحلها، لكن الواقع لا يزال يشي بأن لا إرادة دولية حقيقية، تحديدا لعدم توافر إرادة وطنية. ذاك ان الأعوام الطويلة من الانهيار والتسيب لم تؤد إلى توليد زعامة تاريخية، قوية وكاريزمية، قادرة على التواصل مع جميع الفئات لاقناعها بأن التنازع على مصالح محلية لا يغني عن وجود دولة، وأن نجاحها في إقامة مناطق نفوذ قبلية أو جهوية لا يمكن أن يدوم أو يحل محل مؤسسات لجميع فئات الشعب. واقعياً، بعد زيادة عديد قوات حفظ السلام الإفريقية، ستتحسب دول الجوار للخطر الآتي، فكلما اتسعت رقعة سيطرة الحكومة الانتقالية جرى التضييق على المجموعات المتشددة، وبالتالي فإن المخاوف من عمليات إرهابية في بريطانيا أو كينيا أو أوغندا وغيرها قد تتحقق، لذلك، وطالما أن دول الجوار مشاركة في قوات حفظ السلام فإن الأولى بها ألا تلعب لعبة مزدوجة، وأن تحسم أمرها فتقرّ بأن مصلحتها بعيدة المدى باتت تتطلب العمل على تمكين الصوماليين من التغلب على الصعوبات الراهنة والمضي في استعادة بلادهم مكانها على الخريطة، لقد ظلم الصومال مراراً وتكراراً، سواء خلال صراعات الحرب الباردة واستقطاباتها الإقليمية، أو في الصراعات الإفريقية، أو بتراجع النظام العربي الرسمي، وآن لهذا الظلم أن ينتهي، بل الأهم أنه آن للصوماليين أن يستفيقوا ويهبوا لنجدة بلدهم ومستقبلهم.