12 سبتمبر 2025
تسجيلإن من دلائل الخير في الأمم أن ترى أبناءها في حياتهم الشخصية والعائلية لا ينفقون إلا بقدر معتدل، ولكنهم في حياتهم الاجتماعية كرماء أسخياء، هكذا يعيش أبناء العالم المتحضر اليوم، يقتصد أحدهم في الإنفاق على نفسه إلى درجة تقرب من البخل، فترى الغني الكبير يلبس الثوب البسيط، ولكنه ينفق الملايين على جامعة تؤسس أو على بحث علمي كبير. إنك لتجد الإسلام يحثك في حياتك الخاصة على الاعتدال لا سرف ولا تقتير فيقول: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)، "الإسراء: 29". بهذه الأخلاق ربى رسولنا صلى الله عليه وسلم صحابته، وربى صحابته الناس، فكان ما خلد التاريخ من آثار برهم وسخائهم. لقد كان أبوبكر رضي الله عنه في حياته الخاصة من أبسط الناس معيشة ومأكلا وملبسا، حتى إذا احتاج المسلمون إلى المال للإنفاق على غزوة تبوك، وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على تجهيز الجيش، جاء أبوبكر بكل ماله فقال له رسول الله: ماذا أبقيت لأهلك؟ يقول الصديق: لقد أبقيت لهم الله ورسوله، وهذا عثمان الغني، عندما يصيب الناس في عهد عمر شدة وقحط، فتأتيه قافلة من الشام ألف جمل، فيأتيه التجار يطلبون أن يبيعهم هذه القافلة، فيقول كم تعطونني ربحا؟ قالوا عشرة في المائة، فقال لهم عثمان: إني وجدت من يعطيني على الدرهم سبعمائة فأكثر، إني وجدت الله يقول: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم)، "البقرة: 161"، أشهدكم أني بعتها لله وانها صدقة على المسلمين.. وهذا مثل من الأغنياء. وكان علي رضي الله عنه يأكل مع زوجته فاطمة ما لا يكاد يكفيهما فجاءها سائل فأعطياه ما يأكلان، وظلا طاويين من الجوع حتى نزل فيهما قول الله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)، "الحشر: 9"، وهذا مثل من الفقراء. وتتصدق عائشة يوما بمبلغ كبير من المال، وهي صائمة لا تلبس إلا ثوبا باليا.. فقالت لها خادمتها بعد أن أنفقها: لو أبقيت لنا ما نفطر عليه لكان خيرا، قالت عائشة، وقد نسيت نفسها وذكرت أمتها. لو ذكرتيني لفعلت.. وهذا مثال من النساء. بهذه الأخلاق شيدت المساجد والمدارس في صدر الإسلام وبنيت الخانات يأوي إليها أبناء السبيل، وبهذا انفرد تاريخنا بأوقاف أوقفت على أنواع الخير الاجتماعي.. فلقد كانت عندنا الأوقاف المنتشرة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، لتمريض الحيوانات المريضة، كما كان من أوقافنا أوقاف لتزويج الشباب والفتيات العاجزين عن نفقات الزواج، وأوقاف لاستئجار الرجال ليقودوا العميان، فكان لكل أعمى قائد يقوده. ولرفع معنويات المريض كان هناك وقف لاستئجار اثنين في بعض المشافي يذهبان كل يوم إلى المريض يقفان بجانبه ويوهمانه بأنهما يتكلمان سرا عنه، فيقول أحدهما للآخر: ما رأيك في هذا المريض اليوم؟ كيف حاله؟ فيقول الآخر: إني أراه اليوم في تحسن، فوجهه مشرق، وعيناه متألقتان، ثم ينصرفان وقد ارتفعت معنويات المريض وتقدم نحو الشفاء. بهذه الأخلاق لا نعجب من أن ينتشر الإسلام في نصف العالم في نصف قرن، لذا نرجو إعادة مجد الإسلام، وهذا المجد لن يتأتى لنا إلا بإعادة الأخلاق الإسلامية والتربية الإسلامية على يد المرأة المسلمة كأم وزوجة. أيتها الأخوات من أمهات وزوجات: شجعن أزواجكن على الجود والبر في سبيل المصلحة العامة، شجعنهم على أن يحرموكن ليعطوا الأمة، ويقتروا على أولادكن ليسبغوا من مال الله على عباد الله. كنّ كما كانت عائشة: تنسين أنفسكن وتذكرن أمتكن، علمن أبناءكن وبناتكن أن يكونوا مصدرا للخير في حياة أمتهم، تعطي ولا تأخذ، تخصب ولا تجدب، وتحيي ولا تميت... علمنهم كيف يعيشون في التاريخ مثل آبائهم وأمهاتهم.. منارات تنعكس أضواؤها على الإنسانية حبا ورحمة ورؤوساً شامخة نبلا وكمالا. هذا وبالله التوفيق.