12 سبتمبر 2025

تسجيل

الصراع الخفي بين الحقيقة والتضليل

27 يناير 2018

أي إعلام يتلقاه المشاهد والقارئ والمستمع حول الحصار المفروض على قطر وما يجري في ليبيا وسوريا ومصر والعديد من دول العالم هذه الأيام؟ وهل من موضوعية وحرية في نقل أحداث ووقائع ما يجري في أرض الميدان وهل من استقلالية في معالجة القضايا والمسائل التي تحيط بالأزمات والصراعات. هل من مسؤولية أخلاقي؟ هل من التزام؟ هل من كرامة؟ وشيم؟ ففي هذه الأيام يجد الجمهور نفسه أمام سيل من الأكاذيب والافتراءات والتضليل والتشويه وفبركة الأخبار للنيل من الآخر بدون حق؛ يتعرض الجمهور لسيل من الأخبار والمعلومات محشوة بالتناقضات وتضارب في البيانات والإحصائيات والمعطيات والحقائق. فالحرب النفسية تفرض نفسها على منطق الموضوعية والحياد ويصبح كل طرف متورط أو غير متورط في الحرب يعمل جاهدا لكشف ما يخدمه ويخدم مصالحه وأهدافه وقوته وتفوقه من أجل رفع معنويات الجيش والشعب وكل من يتعاطف معه والنيل من معنويات الخصم. من جهة أخرى نلاحظ أن الطرف الآخر في الحرب يخفي خسائره وضحاياه ويركز على النجاح والنتائج التي حققها. بطبيعة الحال ما دام أن الحرب خداع فإن الغاية تبرر الوسيلة للنيل من العدو ولو تطلب ذلك الكذب وممارسة الحرب النفسية والدعاية والتضليل والتعتيم.  " في وقت الحرب تكون الحقيقة ثمينة جدا الأمر الذي يتطلب حمايتها بحرس شخصي من الأكاذيب" هذه مقولة مشهورة للسياسي البريطاني المحنك وينستون تشرشيل. يقال كذلك أن الحرب أولها كلام. ويستوقفنا التاريخ عند نابليون بونابرت عندما دخل مصر محتلا وأحضر معه من باريس مطابع لإصدار صحيفة يكمّل من خلال صفحاتها عمله الاستعماري ويسيطر من خلالها على الأفكار والعقول    ويمارس الحرب النفسية والدعاية والتضليل والتعتيم. ففي أوقات الحروب تتداخل خيوط الإعلام مع الدعاية مع الحرب النفسية. والحرب بدون إعلام تبقى مبتورة ومعتوهة والسؤال الذي يطرح نفسه في إشكالية الحرب والإعلام هو أثناء حرب الخليج الثانية سنة 1991 تحكّم البنتاجون في التغطية الإعلامية للحرب كما شاء ووفق آليات محكمة سمحت له أن يختار وينتقي الأخبار والأحداث والوقائع التي تخدم وجهة نظر وأهداف الولايات المتحدة الأمريكية. البنتاجون استعمل ما يسمى بالمجمعات الصحفية واتخذ من سي.أن. أن "الناطق الرسمي له “وبذلك لم تتحكم أمريكا في العمليات العسكرية فقط وإنما تحكمت في الصورة وفي أحداث ووقائع الحرب. هكذا إذن في الأزمات تختفي مبادئ كثيرة يتعلمها الصحافي في مقاعد معاهد وكليات وأقسام الإعلام والاتصال الجماهيري. الصحافي في زمن الحرب مقيّد بالمسؤول العسكري الذي يوّجهه إلى المناطق التي يريدها وقد يتدخل حتى في الرسائل التي يرسلها إلى مؤسسته الإعلامية. في حرب الخليج الثانية تابع العالم وشاهد وقائع الحرب من خلال عيون أمريكية وهنا ضاع الإعلام وسيطرت الدعاية والحرب النفسية على نشرات الأخبار والصفحات الأولى من صحف وجرائد العالم. فما كان يرسله الصحافيون إلى مؤسساتهم الإعلامية كان يخضع لرقابة البنتاجون وكل ما كان يتناقض مع وجهة نظر الأمريكيين كان يوسم “بعدم الصلاحية للنشر لأسباب أمنية ".  فحرب الخليج الثانية كانت حربا على مستوى العقول والأفكار والرأي العام قبل أن تكون حربا في الميدان واستطاعت أمريكا بخبرتها وقدراتها الدعائية والتضليلية الفائقة على التحكم في عقول البشر من خلال التحكم في صور الحرب ووقائعها. فالمراسلون الذين قاموا بتغطية حرب الخليج الثانية كانوا يعتمدون في عملهم الإعلامي على توجيهات البنتاجون وعلى المؤتمرات الصحفية والبيانات التي كانت في معظمها تخفي أشياء كثيرة وترّكز على أشياء أخرى ليست بالضرورة صادقة ودقيقة وموضوعية. هذه التبعية لا تسمح للصحافي أن يحافظ على نزاهته وحياده وبذلك فإنه يجد نفسه مستعمَلا ومستغَلا ومبتزا من قبل تجار الحروب والأزمات.   حسب تقاليد الحروب بدأت الولايات المتحدة الأمريكية التحضير لغزو العراق منذ زمن طويل وتكاثفت هذه الجهود بعد أحداث 11 سبتمبر وإعلان الحرب على الإرهاب. فتارة يُتهم العراق بعلاقاته مع القاعدة وتارة أخرى تنشر أخبار مفادها أن أسامة بن لادن موجود بالعراق كما أتهم العراق منذ انتهاء حرب الخليج الثانية بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، الأمر الذي فشلت جحافل فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة على مدى عشر سنوات من إثباته. وتبرر أمريكا حربها على العراق بمحاولة نشر الديمقراطية في هذا البلد والتخلص من "الدكتاتور" صدام حسين وتحرير الشعب العراقي من هذا المستبد. للتذكير فقط يعمل في الجهاز الحكومي الأمريكي أكثر من 9000 إعلامي وهناك أكثر من 1500 رجل إعلام وعلاقات عامة في البنتاجون. كما انه تم تجهيز مركز إعلامي بالقاعدة العسكرية الأمريكية في السيلية بقطر ب 1,5 مليون دولار. فالآلة الإعلامية الأمريكية اشتغلت منذ زمان لكسب الرأي العام الأمريكي أولا ثم العالمي ثانيا. الرهان هذه المرة صعب حيث إن الآلة الإعلامية الأمريكية لم تفلح في عملياتها التضليلية والدعائية وفي كل مرة نلاحظ آلاف الأمريكيين يتظاهرون في مختلف مدن الولايات المتحدة الأمريكية منددين بالحرب وعدم جدواها وإمكانية تجنبها بطرق سلمية و دبلوماسية. لكن مع كل هذا نلاحظ إصرار صقور البيت الأبيض وتجار الحروب و الأسلحة على مواصلة سعيهم لتنفيذ خطط السيطرة والهيمنة على النفط العراقي و على المواقع الاستراتيجية في المنطقة. و هنا نلاحظ تواطؤ "فوكس نيوز"   و غيرها من المؤسسات اِلإعلامية  العالمية  في تهيئة الأجواء للرأس المال العالمي و لليمين المسيحي المتطرف و للصهيونية العالمية  لبسط النفوذ والسيطرة على الثروات و المناطق الاستراتيجية في العالم رغم أنف ملايين البشر و الرأي العام العالمي في مختلف أنحاء العالم. نخلص إلى القول أن الصراع قائم دائما بين الإعلام والدعاية والحرب النفسية والتضليل والتعتيم والتلاعب بالعقول في زمن الحروب والأزمات وأن مبادئ الحرية والموضوعية والمسؤولية الأخلاقية و النزاهة والالتزام بالحقيقة و الحياد و عدم الانحياز ما هي إلا شعارات جوفاء لا أساس لها من الصحة. و تبقى الحقيقة هي الضحية الأولى للأزمات والصراعات الدولية والحروب في نهاية المطاف.