15 سبتمبر 2025

تسجيل

الحاكم حينما يجرم مرتين !!

27 يناير 2014

يروي تاريخنا أن ملك فارس أرسل الهرمزان إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليفاوضه وكان على رأس وفد يلبسون أغلى الثياب وأفخرها، وكان الهرمزان متهيبا من مقابلة عمر، فلما وصل إلى المدينة سأل عن قصر عمر فقيل له: لا قصر له، فقال: أين حرسه؟ قالوا: لا حرس له. قال: أين مكانه؟ قالوا: هذا بيته، فأتوا بيته فإذا هو من طين، فسألوا عنه، فقال ابن له صغير: إنه خرج وقد يكون نائما في المسجد، فخرج معهم للبحث عنه فوجدوه نائما تحت شجرة وقد وضع حجرا تحت رأسه، فقال لهم: هذا عمر، فتعجب الهرمزان وقال وهو لا يكاد يصدق: أهذا عمر الخليفة؟ أهذا أمير المؤمنين؟ قالوا: نعم. فقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.أثبت التاريخ أن الحاكم العادل لا يحتاج إلى قمع شعبه وظلمه لكي يبقى حاكما، كما لا يحتاج إلى مئات الحراس للحفاظ على حياته، فالعدل الذي قيل عنه إنه أساس الملك هو القادر على حماية الحاكم لأنه في الوقت نفسه هو القادر على حماية الشعب من الظلم والقهر والاستبداد، وقد أثبت التاريخ ذلك في كثير من فتراته القديمة والحديثة. ولأن عدل الحكام ليس هو الأصل - على تفاوت بينهم في مقدار الظلم وأسبابه - فإن مطلب العدالة أصبح مطلبا ملحا عند الشعوب التي تشعر بالظلم، وقد عبرت الشعوب عن هذا المطلب بطرق متنوعة وما زالت تفعل ذلك.بعض الحكام لم يكتفوا بظلم شعوبهم بطريقة واحدة وإنما فعلوها مرتين؛ المرة الأولى عندما حكموهم بغير إرادتهم ومارسوا عليهم أنواعا من الظلم، والمرة الثانية، وهي الأسوأ، عندما قتلوا مجموعة منهم ظلما وعدوانا ثم اتهموا مناوئيهم بقتلهم ليبرروا لأنفسهم الاستمرار في قتل المناوئين الذين خرجوا على القانون واعتدوا على المواطنين وأساءوا إلى الدين الحنيف - كما زعموا.الخليفة العباسي المهدي هو من بدأ هذه العملية عندما أنشأ ديوانا للزنادقة كان هدفه محاربة الماجنين، ثم اتسعت أهداف الديوان ليشمل محاربة الخارجين على الدولة، ثم اتسع النطاق - بحسب الحاجة - فأصبح هذا المصطلح تهمة سياسية يطلقها الخصوم بعضهم على بعض والرابح منهم من يستطيع إقناع الخليفة بصحة رأيه، وبطبيعة الحال لابد أن يكون المتهم عدوا للخليفة لكي ينال العقوبة التي غالبا ما تكون القتل والتكفير!! وقد ذكرتني هذه التهمة بتهمة (الإخوان) هذه الأيام، أو تهمة العمالة للخارج، أو إحداث الفتنة في المجتمع!! وقد قتل بسبب هذه التهمة أعداد كبيرة كان منهم بعض المقربين للخليفة، منهم الشاعر المشهور (بشار بن برد)، وقد كان هدف الخليفة قتل المعارضين أو إسكاتهم على أقل تقدير. وعندما نصل إلى تاريخنا المعاصر نجد أن عددا من حكام العرب لجأ إلى الأسلوب نفسه مع بعض التحسينات التي تتطلبها ظروف المرحلة مع التقدم العلمي في وسائل الإجرام والقتل!! ففي مصر - مثلا - ومنذ عهد جمال عبد الناصر بدأ استخدام هذه التكتيكات وكان أولها مسرحية اغتيال عبد الناصر في 26 أكتوبر 1954 الذي اتهم فيها أحد الإخوان المسلمين، وقيل إنه كان من أفضل الرماة وأنه أطلق على جمال ثماني طلقات من على بعد سبعة أمتار لكنه لم يصبه على الإطلاق!! ولست أدري كيف يكون ماهرا وفي الوقت نفسه يكون قريبا جدا ويطلق ثماني رصاصات وتخطئه جميعها!! ردة الفعل العادلة أن يحاكم الفاعل محاكمة عادلة ثم ينفذ فيه الحكم، لكن لأن الهدف من العملية كان شيئا آخر، فقد تم اعتقال آلاف المعارضين من الإخوان والشيوعيين (ما علاقة الشيوعيين إذا كان الفاعل إخوانيا!!)، كما تم فصل مئات الضباط، وحكم على ثمانية من قادة الإخوان بالإعدام، وتكملة للهدف من العملية تمت إزاحة محمد نجيب - الحاكم الرسمي - ووضع في الإقامة الجبرية!! ولكي يحقق عبد الناصر أهدافه في ظل الشحن العاطفي للعملية المزعومة أوقف كل الصحف المعارضة، لأنها تسبب الفتنة!! كما أشرف بنفسه على حملة تحث المغنين والمسرحيين على عمل أغان ومسرحيات تمجده وتنتقص من خصومه.الفريق السيسي - الذي أشيع أنه يشبه عبد الناصر - حاول فعل الشيء نفسه ولكن بطريقة أكثر بشاعة؛ انقلب على رئيسه ولكنه أخفاه أشهرا ثم لفق له العديد من التهم ولست أدري بأي طريقة يريد التخلص منه، لاسيَّما وهو يرى حجم الرفض الشعبي لفعله وتعلق الكثير من المصريين، إما برئيسهم الشرعي وإما بفكرة إنكار الخروج على الشرعية. السيسي لم يكتف بقتل الآلاف في الميادين وإنما لجأ أيضا إلى استخدام مسلسل التفجيرات واتهام الإخوان بها ليتسنى له إسكات كل المعارضين أو سجنهم!! لكن الفرق بين عبد الناصر والسيسي أن المواطن العربي اليوم لم تعد تنطلي عليه تلك الألاعيب التي كانت تنطلي عليه زمن عبد الناصر، فالوعي اليوم ازداد كثيرا، كما أن وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تراقب الأحداث أولا بأول وتحللها ولا تسمح بتزييف الوعي المجتمعي، وهذا كله لم يسمح للسيسي بتمرير مشروعه كما رغب.مسلسل التفجيرات التي جرت في أكثر من مكان في مصر كان المتهم فيها مباشرة هم الإخوان وبطريقة فجة ومضحكة!! فعندما جرى الحديث عن محاولة اغتيال وزير الداخلية استعانوا بشاهد عيان قال: إنه رأى ثلاثة من الإخوان واقفين إلى جانب السيارة وهم المتهمون!! ولكن لم يقل كيف عرف أنهم من الإخوان إلا إذا كان الله قد ميز الإخوان بخلقة خاصة تختلف عن غيرهم! ومثلها حكاية تفجير مبنى مديرية أمن القاهرة المفترض أنه شديد التحصين، خاصة في مثل الظروف التي تمر بها مصر وحديث الدولة عن محاولات التخريب التي سيقوم بها الإخوان وأنصارهم بهذه المناسبة، وقد ثبتت أدلة كثيرة تنفي رواية وزارة الداخلية حول الحدث، فقد ذكرت جريدة الشعب الجديد الصادرة يوم الجمعة 24 يناير أن النيابة العامة كذبت رواية وزارة الداخلية وقالت إن التفجير تم بواسطة ريموت كنترول وعن بعد، كما أن العميد طارق الجوهري قائد الحراسة الليلية لمنزل الرئيس المخلوع قال في اتصال هاتفي مع الجزيرة مباشر: إن التفجير يعد تكرارا لسيناريو تفجير أمن القليوبية من أجل التلاعب بمقدرات الدولة وأرواح المصريين، ووصف العملية بالمسرحية الهزلية. في سوريا بدأ الأسد وعصابته بنفس الطريقة ومنذ الأيام الأولى للثورة التي انطلقت من درعا، حيت سارعت السلطة باتهام جماعات مندسين بتدبير المظاهرات، ثم أصبحوا جماعات إرهابية تقتل المواطنين، ثم سارع هؤلاء المواطنون فطلبوا من الدولة حمايتهم ففعلت!! وبنفس أساليب الحكام الظلمة تم إسكات كل الأصوات المعارضة، إما بالسجن وإما بالقتل. الشيء الجديد الذي جاء به بشار وزمرته أنهم تعاونوا مع جماعات إرهابية لكي تتولى قتل البعض والإساءة للبعض الآخر باسم الإسلام، وهذا الاتفاق أتاح لهم ادعاء أنهم يقاتلون الإرهاب وأن على العالم الوقوف إلى جانبهم في محاربته وكذلك توقف الدول التي تساعده لأنها تساعد الإرهاب!! وتناسى هؤلاء عشرات الآلاف الذين قتلوهم والملايين الذين شردوهم في مشارق الأرض ومغاربها.نفس التمثيليات تكررت في العراق وبكثرة، كما رأيناها في اليمن قبل الثورة وفي الجزائر على فترات متفرقة - وقد شاهدت لقاء أجرته قناة الجزيرة مع أحد رجال الأمن الجزائريين تحدث فيه عن الفظاعات التي كان يقوم بها هو ومجموعة معه ثم يتم اتهام المجموعات الإسلامية المعارضة بها لتتم تصفيتهم فيما بعد بصفتهم إرهابيين وأعداء للشعب الجزائري!! الشعوب العربية تعاني من أنواع متعددة من الظلم والمقال الواحد لا يستطيع استيعابها، ولكن الذي أود أن يفهمه هذا النوع من الحكام أن الشعوب العربية ما عادت تنطلي عليها تلك الأكاذيب، بل إنها تزيدها كراهية لحكامها الظلمة، كما تزيدها حماسهم للمطالبة بحقوقها مهما ازدادت التضحيات ومهما طال الوقت. إن وقوف الإعلام الرسمي إلى جانب الحكام قد يجد ما يبرره، لأنه يفعل ذلك مرغما ولكن الذي يستحيل تبريره وقوف من يسمون أنفسهم ليبراليين أو علمانيين أو إسلاميين إلى جانب من يودع المطالبين بحقوقهم في السجون أو يقتلهم، مخالفين بذلك أبسط القواعد الأخلاقية التي يتحدثون عنها، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة براءتهم منها!! هل يمكن أن نتخيل أن مفتيا يكفر المتظاهرين ويطالب بقتلهم ويرميهم بالكفر!! وهل يمكننا تخيل أن أحد رموز الليبراليين ودعاة الحرية يطالب باستخدام المدارس والمساجد سجونا عندما تضيق السجون؟!! وهل نتصور أن علمانيين وليبراليين يكتبون عشرات المقالات تحرض ضد طائفة أخرى في بلدهم لأنها تخالف مذهبهم؟!! كل ذلك ومثله رأيناه لنكتشف كثيرا من الزيف والأكاذيب عند هؤلاء القوم الذين جعلوا مصالحهم الخاصة أهم بكثير من مصلحة وطنهم ومواطنيهم، بل وحكامهم أيضا!!التاريخ يؤكد لنا أن الظلم لا يمكن أن يدوم، كما يؤكد أن العدالة وحدها هي التي تجعل الحاكم محبوبا وقريبا عند مواطنيه، أما ما يفعله بعض الحكام فهو طريقهم الأسرع للزوال.