12 سبتمبر 2025

تسجيل

رحلة بحث ومسرح (اللامعقول)

27 يناير 2013

يرفع الستار عن ديكور أنيق وثابت، حيث المحطة وحيث يجلس الناس في انتظار صامت وكئيب، لا شيء يتغير سوى تحركاتهم، قادمين ومغادرين على خط شاحب من أفق المسرح الذي كان يفصل بين الوجود والعدم، وجوه مختلفة تحدق في المجهول، ليست لهم أسماء ولا أصوات، لكنهم يمثلون دور البطولة الأهم في المشهد، فهم نموذج واضح للمصير الإنساني المجهول، والأبطال في هذه المسرحية يتحدثون عن حياتهم وكأنها انتهت منذ زمن بعيد أو أنها مهزلة لا تزال قائمة، إنها مسرحية رحلة بحث للكاتب المتميز فهد الحارثي والمخرج المتألق فهد الباكر الذي استطاع أن ينسج توليفة مسرحية رائعة من خلال قدرته المتفردة في جمع أكثر من نص في مسرحية واحدة ليقدمها وكأنها نص مسرحي واحد وحكاية واحدة في مهرجان المسرح الشبابي، كان العرض ممتعا منذ رفع الستار وحتى الثانية الأخيرة، الديكور والألوان والإضاءة والموسيقى نقلت المشاعر إلى الخشبة لتجعل المشاهد يشعر وكأنه أحد أبطال هذا العرض، أما الالتزام باللغة العربية فكان هو العامل الأهم الذي جعلنا وكأننا نشاهد فيلما سينمائيا لإحدى الروايات العالمية الخالدة.  العمل لم يكن فقط كما كتب عنه البعض أنه دراما اجتماعية يعالج مشكلة الزواج بدون حب، إنما هو عمل أشمل وأعمق من ذلك بكثير، حيث استطاع المخرج أن يصنع من النصوص الأدبية التي كانت بين يديه تيارا من العبث واللامعقول، ربما لم يكن لهما وجود في النص، فقد كان واضحا أن اللمسات الإخراجية هي التي جرفت النص نحو هذا التيار وهذه موجة فنية انبعثت من أوروبا وأمريكا وشملت نواحي الفن جميعا من أدب ورسم وموسيقى وتجلت بشكل خاص في المسرحيات التي كتبها جيل من الكتاب أمثال جيلبرت وارثر كوبيت في أمريكا وهارولد بينتر في إنجلترا وبيكيت في فرنسا وكان توفيق الحكيم هو الأول في عالم المسرح العربي الذي تجلت ملامح هذه الموجة في مسرحيته "يا طالع الشجرة" ومسرح اللامعقول ظهر ليناقش بصورة عبثية تفسير الحياة وسخرية الأقدار وعقم العلاقات الإنسانية وتفاهة الزمن، وشيء واحد فقط يجمع بين رواد هذه الحركة المسرحية، إنها نظرتهم إلى الحياة وهي في نظرهم عارية عن الغاية والهدف والإنسان في نظرهم مشتت ضائع لا يستطيع تحديد مصيره، غريب بلا جذور، معلق في رحلة عذاب لا يعرف متى تنتهي وأعتقد أن البسطاء أكثر فهما من المثقفين لهذا النوع من المسرح، لأنه يعبر عن المعاناة الإنسانية بطريقة لا يشعر بها سواهم، وأيا كانت قدرة الفرد منا على تذوق هذا النوع من المسرح الفكري وأيا كانت ظروفنا الثقافية، فإن الاطلاع على هذا التيار المسرحي ضرورة فكرية نتمنى أن تتكرر. (رحلة بحث) تطرح الكثير من الأسئلة التي لا جواب لها في عالمنا الزائف وأعتقد أن المخرج أجاب عن هذه الأسئلة دون أن يقول شيئا، حيث انتهى العرض بضحكات ساخرة وقهقهات مخنوقة دامعة لخصت مأساة الإنسان وضياعه في عالم متقلب.