29 أكتوبر 2025
تسجيلبادرها سائلًا: سيدتي لِمَ أراكِ هكذا حزينة كاسفة البال؟! قالت ودمعة حارّة تتحدّر على خدّين نال منهما كَرُّ الليالي، وعوادي الزمن: أيحتاج ما ترى وتسمع إلى أن تسألني مثل سؤالك هذا؟. أجاب: لا أرى إلا أنّك ملأتِ السهول والوديان أبناءً وحَفَدة، فلم يبلغ غيرُك ما بلغتِ. - قالت: ليتهم كانوا كأبناء غيري في بِرّهم بأُمِّهم، بل ليت غيري قدمن معشار ما قدمتُ لهم.. وليتك ما سألتني سؤالك يا ولدي، لقد جددتَ المواجع، ونكأتَ جراحًا كنت أرجو لها أن تندمل، ثم تابعَتْ وهي تنظر إلى الأفق البعيد: عندما تُقدِّمُ أعزَّ ما لديك لأغلى مَن عندك فإنك تنتظر بِرّا وإحساناً لا عقوقاً ونكراناً، عندما تصنع لهم أمجاداً لم يكونوا يحلُمون بها، ولم تكن أعناقهم تشرئبَ يوماً لمثلها؛ فتوحِّدهم بعد فُرقة، وتجمعهم بعد شتات فليس أقلَّ من أن يصونوا ولا يفرّطوا، ويحافظوا ولا يُضيِّعوا.. ثم التَفَتَتْ إِليَّ وزفرتْ زفرة حملتْ من الإحساس بالقهر ما يكفي أُمَّة، وأردفتْ: لو أنّ ظُلماً وقع عليك من غريب بعيد لتحملتَ ذلك ودفعتَه بكل ما لديك من قوة وأنتَ مُستَفَزّ مُستَنفَر القُوَى، لكنّ الطامَّة الكبرى أنْ تأتيك الإساءةُ ممن يَتَوَجَّبُ عليهم الإحسانُ، وأن تُطعَنَ في ظَهرِك ممن يُتوقعُ منهم حمايتك، والذّود عنك، ساعتَها تجد في حلقك غُصَّة، وفي نَفْسك ألماً لا يداويه كَرُّ الليالي، وتوالي السنين، وصَدَقَ الشَّاعرُ حين قال: وظلمُ ذَوِي القُربى أشدُّ مَضاضةً على النَّفْسِ من وَقْعِ الحُسامِ المُهنّدِ لم يكن الحوار السابق بين أُمٍّ هَجَرَها أبناؤها أو أودَعُوها داراً للمُسِنّين، ولا بين عجوز تخلّى عنها أحفادُها وألقوا بها على قارعة الطريق بل هو حوار يحكي حال اللغة العربية وقد تَناوشتها سهام أبنائها قبل أعدائها فأضحت غريبة في ديارها، تشكو الوحدة على كثرة مَن حولها، على أنَّ يُدْمِي الفؤادَ أن يكون التَّخَلِّي عنها، والدعوة إلى تهميشها من بني جِلدتها بدعوى التحرر والانطلاق، ومواكبة مستجدات العصر، وكأنّ إهمالَها والنَّيلَ منها هما بوابةُ العبور إلى عالَم الذَّرَّة، أو هما تأشيرة الدخول لعالِم الفضاء، وكأنّ اللغة العربية قد وقفت عاجزة عن استيعاب ما تفتقت عنه عبقريةُ أبنائها البواسل! إن لغةً صلحت أن تكون وعاءً لكلام عزَّ وجلّ حريٌّ بها ألا تقف مكتوفة الأيدي أمام مخترَع هنا، أو مُكتَشَف هناك، وهذا ما صاغه حافظ إبراهيم شعرا، وأكّده بقوله على لسان اللغة العربية: وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ إذا كان الحفاظ على اللغة العربية، والدفاع عنها، والذَّود عن حياضها فرضا لازماً، وواجباً فيما مضى فإنه الآن أوجب، ووجه فرضيته ألزم في ظل متغيرات متسارعة، ومستجدات لاهثة، وحملات مسعورة تطمح للنَّيل منها، فإذا قلت: إنك تُحمِّل الأمور أكثر مما تحتمل، واتَّهمتَني بالمبالغة وتَبنّي نظرية المؤامرة فما عليك إلا أن تفتح نافذتَك وتنظر إلى ما يحاك للغتك! إلى أين وصلتْ ذاتُ الأصول؟ وكيف تبوأت غيرُها من اللغات المدفونة مكانة عالية، ومنزلةً بين النّاسِ سامية، فأصبح يُتحدّث بها في المحافل الدولية، ويُعمَل لها ألف حساب؟! فإذا سألت: لماذا تتوارى اللغة العربية إذن عن الأنظار، وتنزوي في جانب المشهد لتتصدر غيرها من اللغات؟! أَلِسماتٍ في غيرها ليست فيها؟! أم لخصائص تفردن بها دونها؟! أجبتك: إن عكس ما ذكرتَ هو الصحيح؛ فاللغة العربية باشتقاقها، وتصريفها، وبنحوها وخصائص أصواتها، وبأبنيتها وتراكيبها تتفوق على ما عداها غنىً وثراءً، ومرونة وقابلية للتطور، فلماذا إذن تتأخّر ويتقدّم غيرها؟. وإذا أردتَ جواباً شافياً فلا يكن نظرُك إلى اللغة وحدها ولكنْ انظر إلى حال الناطقين بها وموقعهم من النهضة والتطور، فإن وجدتَهم في عزٍّ ومنعة، ورِفعة وسموّ، وتقدم وازدهار ووجدتَ لغتهم قد تخلّفتْ عنهم في شيء من ذلك فساعتها لُمْ تلك اللغة وانتقدها.. عليك بالبحث إذن والتنقيب عن مثل تلك الحالة السابقة فإن وجدتَها – وما أَظنّك واجدها- فالعيب حينئذٍ في اللغة لا في متكلميها أو الناطقين بها، وما دامت هذه الحالة غير موجودة بين الأمم ولا معهودة بين الشعوب فاعلم أن العيب ليس في اللغة وإنّما فيمن هم بها ينطقون وإليها ينتسبون، وهكذا الحال مع العرب ولغتهم.. فلو كانوا ناهضين، ولتراثهم مبجلون، وبلغتهم معتزون، ولو أنهم أخذوا بأسباب العلم التي أمرهم بها ربهم الكريم، ونبيّه العظيم لوجدتَ اللغة العربية في أعلى مكان، وأسمى منزلة، ولكنّ الأمر ليس على هذه الشاكلة. لقد تخلّى المسلمون – والعرب في القلب منهم- عن دورهم الريادي فأضحوا على ما تسمع وترى من التّخلي، بل وذابوا في عادات غيرهم من الأمم، فقلّدوا ولم يبدعوا، واقتفوا أثر غيرهم واحتذوهم حَذْوَ النَّعل بالنّعل، ويا ليت ذاك التقليد والاقتفاء والاحتذاء كان في علم يورّث، أو في فضيلة تُكتَسب، وإنما أضحى في الجوانب الشكلية، وما ذلك إلا لضعفهم وتخليهم؛ فالمغلوب يميل دائما إلى تقليد الغالب؛ يقول ابن خلدون: "إن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شِعاره وزِيِّه ونِحْلَتِه وسائرِ أحواله وعوائدِه، والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه..". لقد قيّض الله لهذه اللغة في عصورها الزاهيات رجالًا ذوي عزيمة وبصيرة، وعلم ودراية فنهضوا بها مع نهوضهم بعلوم القرآن الكريم، ونحمد الله عزّ وجلّ أن وفّقَ إليهم، فالله وحده أعلم بمصير هذه اللغة لو أن الأمر قد أُوكِل إلينا على ما نحن فيه الآن من ضعف وهوان. لقد شُغِل أبناء العربية عن لغتهم، والتمسوا العزّ في غيرها، فاكتسبوا لغات أخرى، وتعلموا دقائقها، ومخارج حروفها، وصفات أصواتها، فإذا نطقت أمام أحدهم جملة باللغة الإنجليزية فرضتها الضرورة تجده ينظر إليك شزراً، ويبتسم لك ابتسامة صفراء، ثم تراه يهمس إليك همساً يُسمِع الحاضرين بأنّك قد ارتكبتَ جُرْماً ما كان له أن يُغتفَر؛ لأنك أبدلت الـ(B) بالـ (P) أو لأنك نطقتَ بالصامت وحَقُّه ألا يُنطَق، فتشعر أنت بالاستغراب من حاله، في حين يشعر هو بالنصر والظفر، والله أعلم بتصنيفه لك!، فإذا تبادلتما المواقع، فأحللتَ أنت اللغة العربية محل الأجنبية، ونظرت في أخطائه وأخطاء غيره في نطق اللغة العربية؛ لغته الأم أو كتابتها ورسم حروفها لوجدتَ العَجبَ العُجاب، فإذا انتويتَ أن تُحصي تلك الأخطاء لوجدت الخرق قد اتسع على الراقع، ولتشعّب عليك الأمر لكثرته وشيوعه، فتصبح أنت وهذه الأخطاء الشائعة على ما قال الشاعر: تكاثرتِ الظِّباءُ على خِراش فما يدري خِراش ما يَصيدُ وإذا كانت تلك الأخطاء تعد بشعة في حق اللغة العربية فإنها في حق تلاوة القرآن الكريم لهي أشد وأبشع، وإلى الله المشتكى. إذا كان يُحمَد للأمم المتحدة تخصيص يوم الثامن عشر من ديسمبر من كل عام لتذكير البشرية بأهمية هذه اللغة فإنه مما لا يحمد لنا أن نقصر الاهتمام بلغتنا على ذلك اليوم فحسب، وإنما يجب أن يكون شعارنا" اللغة العربية لكل زمان" فنتحدث بها بلا خجل، ونعلّمها أبناءنا، ونحرص على نطقهم الصحيح، ونعلمهم معها الاعتزاز بها؛ ففي الاعتزاز بها تقديس لكتاب الله عز وجل، واحترام لتراث عربي إسلامي مجيد أكل العالَم كُلّه على موائده العامرة، فهل يكون الاحتفال باللغة العربية تكريما لها بحقٍّ، أم تُراه تأبيناً لها ورِثاء لأجل أمجاد غَبرتْ، وانتصارات ولَّت؟. إذا كنتَ من المتفائلين بمستقبل هذه اللغة، وأن الله حافظها بحفظ كتابه الكريم فلتكن البداية من الآن؛ بأن نأخذ على أنفسنا العهود والمواثيق بأن نصونها، ولا نفرّط فيها، وأن نحميها ونذود – ما استطعنا- عن حياضها، وأن نُنَشِّئَ جيلًا محبًّا للغته، معتّزًا بها، وكفانا فخراً قول الله تعالى: (إنَّا أنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ) {يوسف:2} فهل سيأتي الاحتفال باللغة العربية في مثل هذا اليوم من العام القادم إن شاء الله وقد تبدّلت أحوال اللغة العربية فأصبح يُشار لها بالبنان؟ نسأل الله أن يكون ذلك كذلك، وأن يُحيينا لنراها في الأعالي والذُّرا. لغة إذا وقعت على أسماعنا كانت لنا بردا على الأكباد ستظـل رابطة تؤلف بيننا فهي الرجاء لناطق بالضـــاد