13 سبتمبر 2025

تسجيل

فوز السبسي يطوي صفحة الانتقال الديمقراطي في تونس

26 ديسمبر 2014

أصبح الباجي قائد السبسي زعيم "حزب نداء تونس" أول رئيس منتخب بشكل حر وديمقراطي في تاريخ تونس، وأول رئيس لجمهوريتها الثانية، وذلك عقب فوزه في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي شهدتها تونس يوم 21 ديسمبر. ويشكل فوز الباجي قائد السبسي انتصارا للمشروع الوطني الحداثوي الذي قاده الراحل الحبيب بورقيبة منذ تأسيسه الجمهورية التونسية الأولى عقب حصول تونس على استقلالها في عام 1956، حيث شيد بورقيبة الدولة المدنية الوحيدة في العالم العربي، فيما أخفقت الأيديولوجيات الشمولية الأخرى. الرئيس الباجي قائد السبسي تمرد على نظام والده الروحي الحبيب بورقيبة، عندما انشق رمزيا عنه في نص استقالة شهير سنة 1970 في جريدة "لوموند" عندما كان سفيرا لتونس في باريس.. وفي المؤتمر الثامن للحزب الاشتراكي الدستوري المنعقد في مدينة المنستير عام 1971، حقق الجناح الذي كان ينادي بالليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية في آن واحد، الأغلبية في المؤتمر، وتمثل هذا الجناح في أحمد المستيري والباهي الأدغم والباجي قائد السبسي، والحبيب بولعراس، فتدخل بورقيبة شخصياً، وألغى انتخابات المؤتمر. ومع ذلك فإن عدداً كبيراً من المؤرخين التونسيين يتجاهلون أن الباجي قائد السبسي كان قائد الجناح الديمقراطي داخل النظام البورقيبي عينه، والرجل الذي وضع كل إمكاناته المالية على ذمة الحركة الديمقراطية الناشئة فأسس مجلة "ديمقراطية" الناطقة بالفرنسية، وكان قريبا من مجموعة "الرأي" ورابطة حقوق الإنسان وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين.ولم يعد الباجي قائد السبسي إلى الحكومة إلا بعد أكثر من عشر سنوات وبعد اعتراف الزعيم بورقيبة بالتعددية الحزبية في 1981. انطلاقا من هذا الإرث البورقيبي، عمل الباجي قائد السبسي على تأسيس حزب جديد بعد أن سيطرت الترويكا الحاكمة سابقا بقيادة حركة النهضة الإسلامية على مقاليد السلطة في تونس عقب الانتخابات التي جرت في 23 أكتوبر 2011. ونجح الباجي قائد السبسي، الوزير السابق في عهد بورقيبة والرئيس الأوّل للبرلمان في عهد بن علي، وصاحب الكاريزما "البلدية" العتيقة (كابن برجوازية تونس العاصمة)، في أن يقدّم نفسه كـ"أملٍ للخلاص والتغيير" لجزء هامّ من المجتمع التونسي، عبر تجميعه في "حزب نداء تونس" في بداية سنة 2012، أطياف سياسية وفكرية عديدة، شتات الجزء الأهمّ من كوادر ورجال أعمال نظام بن علي وحزبه المنحلّ، "التجمّع الدستوري"، ممّن لم يختاروا الانضمام لـ"حزب النهضة الإسلامي"، وبقيّة الأحزاب "الدستوريّة"، ومن فئات الطبقة المتوسطة المتضررة من الثورة، ومن النقابيين واليساريين الليبراليين المتخوفين من مشروع حزب النهضة القاضي بـ"أخونة الدولة التونسية" والقضاء على مظاهر مدنيتها وعلمانيته، من خلال تمظهرات مسودّة مشروع النهضة للدستور، التي تضمّنت "الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع"، وبعث مجلس أعلى إسلامي. بفوز "حزب نداء تونس" في الانتخابات التشريعية، وفوز زعيمه الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية، استطاع هذا الأخير المدعوم من قبل الأحزاب السياسية الوطنية الديمقراطية والليبرالية والعلمانية، أن ينجح في استمالة كوادر النظام السابق لـ"حزب نداء تونس"، ويواصل تمثيل مصالح برجوازيّة العاصمة والساحل، والاحتفاظ بدعم القاعدة الاجتماعية التقليديّة للحزب الحاكم منذ الاستقلال، وأن ينقذ تونس ودولتها المدنية، ومكاسبها الحداثية.فالتونسيون الذين خرجوا إلى الشوارع واحتجوا على النظام السابق في أكثر من مدينة سواء في أحداث سليانة 1990 أو الحوض المنجمي في 2008 أو بنقردان في صيف 2010 أو بداية من 17 ديسمبر 2010 إلى 14 يناير 2011 كان هاجسهم الأساسي هو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية، وليس تخريب الدولة ونسف مكاسبها. والحال هذه عرف زعيم "حزب نداء تونس"، والرئيس المنتخب الباجي قائد السبسي كيف يستثمر الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها حركة النهضة، لاسيَّما ضعف الكفاءة في إدارة الحكم، والعجز عن تقديم أجوبة شافية على المطالب الاجتماعية، وتساهلها الكبير مع التيّارات السلفيّة، في النصف الأوّل من فترة حكمها، وكذلك تهميش النهضة لحليفيْها في "الترويكا" الحاكمة، حزبي "المؤتمر من أجل الجمهورية" و«التكتل من أجل العمل والحرّيات»، وصدمة زلزال اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في فبراير 2013، وتعاظم خطر الإرهاب إثر اغتيال النائب القيادي بالجبهة الشعبيّة محمّد البراهمي في 25 يونيو 2013. إضافة إلى أخطاء حركة النهضة، لعبت العوامل الإقليمية والدولية لمصلحة تزايد نفوذ «حزب نداء تونس»، ومنها: أولاً: الحرص الواضح للدول الغربيّة المؤثّرة، تحديدا الولايات المتحّدة وفرنسا وألمانيا، على أن تكون تونس «النموذج الديمقراطي» الناجح في المنطقة، وهو ما يفترض وجود توازن بين قوّتين سياسيتين كبيرتين تحت سقف شروط المنظومة الليبراليّة المعولمة. وثانياً: تداعيات تغيّر المشهد الإقليمي، وتحديدا سقوط الإخوان المسلمين في مصر على تراجع حركة النهضة، والصعوبات التي واجهها مؤخّرا حليفاها في أنقرة والدوحة.وثالثاً: أجواء الخوف للشعب التونسي من الإرهاب المستوطن في تونس، والحنين إلى «الأمن والاستقرار الضروريّين لعودة الحركة الاقتصاديّة»، وخيبة أمل أغلب التونسيين من حكم «النهضة». فنجح الباجي قائد السبسي في إقناع الكثيرين من التونسيين بخطابه عن «استعادة هيبة الدولة»، و«المحافظة على الإرث الحداثي البورقيبي والنمط المجتمعي التونسي». كما استفاد في ذلك من الماكينة الحزبية والانتخابيّة القويّة التي ورثها عن حزب بن علي المنحلّ. ونجح زعيم «حزب نداء تونس» الباجي قائد السبسي خلال الحملة الانتخابية في كسب تأييد قطاعات واسعة من الرأي العام، حيث نحت لنفسه صورة «رجل الدولة القوي» الذي يدافع عن مكاسب التونسيين الاجتماعية والسياسية. ومع فوز قائد السبسي يكون التونسيون قد انتصروا للمشروع الوطني الحداثوي، الذي ناضلت من أجله أجيال من المصلحين مند منتصف القرن التاسع عشر من أجل بناء دولة مدنية ذات مؤسسات سيادية قوية تتمتع باستقلالية قرارها الوطني، وأيضاً من أجل مجتمع تعددي ديمقراطي يضمن الحق في الاختلاف والتعايش السلمي. وبذلك نجح الشعب التونسي وقواه الوطنية والديمقراطية في طي صفحة الانتقال الديمقراطي، وودع صفحة المؤقت بما فيها وفتح صفحة جديدة في تاريخه الحديث... صفحة سيكتب التاريخ في بداياتها أن التجربة الديمقراطية في تونس قد ولدت كبيرة وراشدة ومكنت البلاد من إعطاء درس جديد للبشرية ومن بلورة أنموذج رائد للانتقال الديمقراطي.