12 سبتمبر 2025

تسجيل

توضيح الواضحات

26 ديسمبر 2012

إذا استشكلت الأمور الواضحة، صار توضيحها من الصعوبة بمكان، وقديما قالوا "إن من المعضلات توضيح الواضحات"، ويثير ما يجري حاليا على الساحة السياسية في مصر هذه الصعوبة، حيث تفترق النخبة السياسية على بديهيات ما كان ينبغي التوقف لإيضاحها أو تفسير سبب الخلاف حولها، ومن ذلك ما يجري من جدل ولغط بمناسبة ظهور نتائج الاستفتاء على الدستور المصري بما يفيد موافقة أغلبية المصريين على مسودته، وهو ما لم تتقبله قوى المعارضة، التي أعلنت أن هذا الدستور لا يمثلها، وأنها رغم مشاركتها في الاستفتاء، وتصويتها بـ"لا"، فإنها لن تلتزم بالنتيجة التي تمخض عنها، وستستمر في معارضتها للدستور والتمرد عليه مهددة بإعلان العصيان المدني في مقاومته ومقاومة ما سيترتب عليه من آثار. هذا النوع من المعارضة لا يتضمن فقط إخلالا بقواعد اللعبة الديمقراطية كما يتعارف عليها السياسيون وعلماء السياسة، ولكنها تتصادم أيضاً مع قواعد المنطق التي تفرق بين القبول بقرار ما وبين الامتثال لما يتمخض عنه من نتائج. إذ لا يشترط أن يتقبل المرء قرارا ما لكي يتحمل بآثاره، والعديد من القرارات التي تتحرك بموجبها الشعوب هي قرارات لا تحظى برضا الكثيرين ولكن لا يعني هذا أن من يرفضها في حل من الالتزام بها. وتنطوي قصة الخلق الأول على ما يؤكد هذا المعنى فقد أخذ آدم عليه السلام قرار الأكل من الشجرة المحرمة، وهذا ما لا يتقبله الكثير من أبنائه المنحدرين من ذريته بطبيعة الحال، ولكنهم رغم ذلك تحملوا نتائج قرار أبيهم (الخروج من الجنة)، لأنهم كانوا في صلبه وقت خروجه، وهكذا أصبح من مفردات الحياة أن التحفظ على قرار ما لا يعفي من التحمل بما يترتب عليه من نتائج. صحيح أن من حق الرافضين للاستفتاء أن يستمروا في رفضهم له، ولكن لا يمكنهم أن يمتنعوا عن الإذعان للدستور الذي تمخض عنه، كما لا يمكنهم أن يعتبروا أنفسهم غير مشمولين بأحكامه. فالاستمرار في رفض الدستور الذي حاز على موافقة أغلبية المصريين يعكس خروجا على القانون نفسه، على اعتبار أن الدستور ما هو إلا مظلة لكافة القوانين. كما أن استمرار الاحتجاجات على نتيجة التصويت الشعبي يمثل استلهاما لديكتاتورية الأنظمة القديمة، التي كانت ترفض كل ما لا يتسق مع هواها، وتصبغ الواقع بصبغتها المنفردة وإرادتها المطلقة. والأسوأ من كل ذلك أنه لو تخيلنا أن جهود إسقاط الدستور قد نجحت وبلغت مسعاها فإن الثمن المباشر لذلك سوف يتضمن تلقائيا إسقاط الشرعية الجماهيرية وكتابة الفصل الأخير في عهد الديمقراطية الذي بدأ بالكاد في مصر. أما حديث المعارضة عن التزوير، والذي يستخدم لتبرير رفضها الاستفتاء ونتائجه، فإنه بحاجة إلى إثباتات وإلا ظل مجرد كلام مرسل. خاصة أن الأدلة التي يتم سوقها كبرهان على التزوير لا تكاد تقنع أحدا من فرط سذاجتها، مثل القول إنه تم التلاعب غير المباشر بالمواطنين عن طريق قيام أعضاء جماعة الإخوان بالتصويت ثم العودة للوقوف في طوابير لمزاحمة بقية المصوتين، أو الزعم بأنه تم منع الأقباط من التصويت، أو أنه صدرت أوامر للسلطة التنفيذية بعدم تحرير أي محاضر عن الانتهاكات التي شهدتها عملية الاقتراع، أو أنه تم قطع الكهرباء عن المحافظات التي لم تكن اتجاهات التصويت فيها في صالح الإخوان. هذه الروايات لا تثبت التزوير بقدر ما تؤكد محاولة مروجيها تصوير الدستور على أنه دستور جماعة الإخوان، وأنه مجرد حلقة فيما تسميه مسلسل أخونة الدولة واختطاف مؤسساتها، وهو اتهام لم يتعاط معه المصريون بالحماس الذي تتمناه المعارضة على أي حال. على المعارضة أن تفهم أن ثمة مسافة مازالت تفصلها عن الشارع الذي لم يقتنع بحججها، ولم تعجبه طريقتها القائمة على الهدم والتي مارستها وألحت عليها خلال فترة الإعداد للدستور. ولكن أهم ما ينبغي أن يتضح لها أن إصرارها على تحدي الاستفتاء وتهديدها بالانقلاب على نتائجه النهائية سوف يحمل للمصريين رسالة مفادها أن هذه المعارضة تمارس نوعا من التعالي إزاءهم، مما سيعمق الفجوة بينهما وسينعكس بالضرورة على النتائج التي ستحققها المعارضة في الانتخابات التشريعية القادمة. هذه الأخطاء المتراكمة لفريق المعارضة لا تعني أن الطرف الآخر من المعادلة السياسية لا يمارس بدوره أخطاء بديهية، ونعني بذلك تيار الإسلام السياسي وبخاصة جماعة الإخوان التي تتصور قطاعات كبيرة منها أن تصويت المصريين لصالح مسودة الدستور هو تصويت لصالحها. وأن الأغلبية التي حصلت عليها هذه المسودة هي تفويض جديد للجماعة والرئيس المنتمي إليها بأن يديروا البلاد في المستقبل بنفس الطريقة التي يديرونها بها حالياً. هذا التصور بحاجة إلى ما يرشده. ما ينبغي أن تدركه الجماعة هو أن الجماهير صوتت في الاستفتاء الأخير من أجل التحرك إلى الأمام وليس من أجل البقاء على الوضع الراهن. كما أن على الجماعة أن تعي أن قطاعات كبيرة من المصريين مازالت متحفظة بشأن طريقة إدارة الدولة المصرية، فمازال المصريون لا يفهمون من يصنع القرارات الرئاسية (الإعلان الدستوري قبل الأخير نموذجا)، ومازال المصريون لا يفهمون لماذا تحتفظ الرئاسة بجدار من السرية حول مستشاريها الحقيقيين، ومازال المصريون لا يعرفون إلى متى سيستمر التراجع والتخبط فيما يتم اتخاذه من قرارات، ومتى سيتحقق تجانس حقيقي بين ما يتم الوعد به وما يتم تنفيذه فعليا. والأهم من كل ما سبق أن المصريين بحاجة إلى أن يعرفوا أولويات الرئاسة المصرية ومشروعها السياسي والاقتصادي في مرحلة ما بعد إقرار الدستور.