06 أكتوبر 2025
تسجيلكثير من المثقفين أو من يسمون أنفسهم أو يعتبرونها من النخبة في العالم العربي، ينادون بالعلمانية كمنهج حياة يمكن أن تسير عليه الدول الإسلامية، للخروج من الأزمات الكثيرة التي تعيشها، لا سيما أزمة التطرف والتعصب الديني، أو هكذا هو الزعم. تراهم في قلق وتوتر من انتشار ظاهرة التدين والالتزام بالدين أو الرجوع إليه، وبقاء الملتزمين بما هم عليه من مظاهر في المجتمع، يعايشون الواقع والناس بشكل طبيعي دون حدوث ما يخوفون به الناس، من قبيل أن تلك العودة إلى التدين، فيها خطر على الدولة بشكل عام، وإمكانية أن تتحول الدولة إلى دينية متزمتة، دون أي دلائل علمية وواقعية صلبة تؤيد تلك المزاعم، مضيفين إلى أن الحل الأفضل والأمثل هو العلمانية، مع إبقاء الدين بشعائره وشرائعه، محصوراً في الجوامع والمساجد، ومرددين مقولة منسوبة للسيد المسيح – عليه السلام - وفي ذلك شك بيّن: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله. أي باللغة الحاضرة العصرية، فصل الدين عن الحياة أو السياسة، وهل الدين إلا سياسة حكيمة للحياة؟ ليس حديثنا عن العلمانية، لكن هؤلاء المنادين بها، الذين باتوا أكثر وضوحاً من ذي قبل، وأكثر جرأة ليس على الناس فحسب، بل على الله! تراهم يرفضون ظاهرة انتشار اللحى مثلاً بين الشباب، أو الحجاب بين النساء في المجتمع، ويعتقدون أن ذلك دلالة تخلفٍ ورجوعٍ إلى الماضي، وربما بعض منهم لا يقولها صراحة، ولكن هناك بعض آخر لا يستحي من الجهر بالقول في ذلك، بل يطالب بمنع انتشار تلك المظاهر!. لو أردنا أن نناقش الموضوع بشكل مقتضب دون كثير تفاصيل، وبشكل أكثر عصرية أو كما يريد البعض المتحضر منهم أن يكون، فلنضع الدين هاهنا على جانب ولا نستند إليه - مؤقتاً - في مناقشة هذا الأمر، ولنستند إلى المنطق والعقل والواقع، كما هم يريدون. مسألة التدين والرجوع إلى الدين مع ما لذلك من مظاهر واضحة عند البعض، كإطالة اللحى أو لبس الثياب العربية الخليجية عند بعض العرب، وارتداء الحجاب بشكل صحيح عند النساء، أو عدم الخوض بالقول والفعل في بعض مباهج الحياة المختلفة المباحة، تزهداً فيها، وعدم التحدث كذلك في قضايا وأمور الرياضة أو الفن أو بعض ما شابه من موضوعات، فإنما كلها تدخل ضمن إطار الحريات الشخصية. فلماذا كل تلك المظاهر لا يعتبرها أولئك المنتقدون لها، من ضمن الحريات الشخصية للرجل الملتزم أو المرأة الملتزمة؟ وحين تأتي امرأة مثلاً وتنتقد الحجاب بصورة وأخرى، لماذا لا تعتبر تلك الناقدة أن ذلك الأمر حرية شخصية للمتحجبة، مثلما هي نفسها التي تعتبر كشف شعرها ضمن حريتها الشخصية؟ ولماذا تعترض على الناقدين لها بسبب كشفها أو عدم تحجبها، وتعتبر أن ذلك تعرض وتدخل في حريتها الشخصية؟ أليس هذا تناقضاً وازدواجية في التعامل؟ لماذا ينتقد رجل يلبس القميص والبنطلون مثلاً، رجلاً آخر من نفس جنسيته يرتدي جلباباً أو ثياباً، معتبراً أن ذلك الزي دليل تخلف ورجعية؟ لماذا يعتبر زيه حرية شخصية ولا يكون كذلك مع مواطنه الآخر؟. الأمثلة من هذا النوع كثيرة، وما ذكرناه ليس سوى مثال واحد من عشرات الأمثلة الدالة على مدى ضيق صدور البعض لكل ما يخالف أفكارهم وقيمهم ومعتقداتهم، أياً كانت تلك القيم والمعتقدات. ولو كان أولئك الزاعمون بأنهم علمانيون صدقاً وعدلاً، فلماذا يضيقون ذرعاً بمن يخالفهم في الفكر والمعتقد والتوجه؟. إن هذا الضيق ليس من العلمانية في شيء إن أردنا أن نفهمها كما هي متجسدة جزئياً على أرض الواقع في كثير من دول العالم، عدا فرنسا ماكرون، التي تفهم العلمانية بطريقة مختلفة تماماً حين يأتي الحديث عن الإسلام والمسلمين، دون غيرهم من أديان ومعتقدات. النخب المثقفة في أزمة من خلال الأزمات التي مرت وما زالت تمر بها الأمة، تبين لنا أن النخب المثقفة تعيش أزمة، بل ربما فقدت بوصلتها، فلا هي مع الداخل ولا مع الخارج، بل تارة هنا وتارات أخرى هناك، لتكون محصلة ذلك في النهاية، لا شخصية واضحة بقيت لهم يمكن أن يعرفهم بها الناس، مثلهم كالغراب الذي أراد تقليد مشية العصفور، فلا استطاع التقليد ولا عاد غراباً. إن طرحهم بين الحين والآخر لمسائل مرتبطة بمعتقدات مجتمعاتهم، وإعادة إحيائها من جديد، دلالة على الأزمة التي يعيشونها. وبدلاً من حماية مجتمعاتهم من غريب القول والفعل، خاصة تلك القادمة من المحيط الخارجي غير المتوافقة مع معتقدات وقيم وثقافة مجتمعاتهم، تراهم أشبه بطابور خامس، ينخر في جسد المجتمع، وتقوى شوكتهم مع التيار الحاكم في كل بلد، وتخفت مع خفوته أو تبديله، وهكذا هم. لقد أظهرت أزمات الأمة، هشاشة دور المثقفين بشكل عام، بل لقد ضاع دورهم القيادي المؤثر أو كما يجب في وقت الأزمات، وصار مثقفو كل دولة يتحصنون في قلاعهم الرسمية أو خلف الساسة، ينشدون السلامة أولاً ومن ثم يتطلعون إلى رضا ولي الأمر، حتى وإن كان يجانب الحق والصواب! الساسة والمثقفون لقد أثبتت الأزمات العديدة التي تمر بالأمة، مدى الدور العظيم المؤثر للساسة في توجيه المجتمعات، بدلاً من أن يكون هذا الدور للنخبة المتمثلة في المثقفين والمفكرين والعلماء، الذين هم من يصنع ويشكّل توجهات ورؤى الشعوب بمن فيهم الساسة. ولكن حين تخلت نخب المجتمعات عن دورها القيادي، رغبة أو رهبة، ضاعت بوصلة مراكب المجتمعات العربية، فصارت تسير على هدى السياسيين تارة، أو المشتغلين بالإعلام تارة أخرى. ولهذا ترى المراكب العربية تنتقل هنا وهناك، في تحركات تشوبها الكثير من التخبطات، ليس في السياسة فحسب، بل غالبية المجالات، وتلكم التخبطات لا شك بأنها لا تسر ولا تنفع كذلك. وهكذا عالمنا العربي، من أزمة إلى أخرى، وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. [email protected]