13 سبتمبر 2025

تسجيل

حروب الجيل الرابع (1)

26 نوفمبر 2014

تعد مقولة "حروب الجيل الرابع" من أكثر المقولات التي يلوكها إعلام أنظمة الاستبداد هذه الأيام، وذلك في سياق حديثه التحريضي الأوسع عن "نظرية المؤامرة" و"الفوضى الخلاقة" و"اليد الخفية" التي تبتغي تفكيك دول المنطقة من داخلها ودفعها إلى هاوية التآكل. فما حقيقة هذه النظرية، وهل ولدت ثورات الربيع العربي بالفعل من رحم هذا النوع من الحروب، ومن عساه المستفيد من تفكيك الدول القائمة، وهل لدى الدول الكبرى، التي تشرف على سيناريو التفكيك - وفق هذه النظرية، أي سيناريوهات بديلة لملأ الفراغ الذي سيحدثه اختفاء هذه الدول؟ هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها في سلسلة مقالات حول هذا الموضوع، ولكننا نخصص هذا المقال لعرض أهم مقولات النظرية الأصلية وذلك وفق أحد أهم من كتبوا فيها وهو "ويلايام إس ليند"، وذلك في مقالة الشهير "Understanding Fourth Generation War"، والذي نشره عام 2004 في مجلة Military Review.ملخص النظرية أن الحرب الحديثة قد تطورت من استخدام القوة البشرية المكثفة، إلى استخدام قوة النيران، إلى استخدام المناورات، وأخيرا إلى استخدام الشبكات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لإقناع الخصم أن أهدافه إما غير قابلة للتحقيق أو مكلفة للغاية.وتفترض النظرية أن نقطة بداية الحرب الحديثة تمثلت في صلح ويستفاليا 1648، والذي أسس لنظام الدولة القومية، وأنهى حرب الثلاثين عاما التي نشبت لأسباب دينية، فمنذ ذلك التاريخ احتكرت الدولة القومية الحرب، واعتبرتها إحدى أدواتها السياسية، مقررة أنه من غير المسموح أن تنشب لأي أسباب أخرى، أو بين أي أطراف من غير الدول؛ كأن تنشب بين المدن والقبائل والعائلات أو بين أصحاب الديانات المختلفة. وانطلاقا من هذا الاحتكار تحركت الحروب عبر أربعة أجيال.حروب الجيل الأول: في إطار حروب هذا الجيل كانت المعارك تتم وفقا لأسلوب المواجهة المباشرة والمنظمة، حيث يتم تخطيط ميدان القتال بطريقة هندسية، يصطف في إطارها الجنود من الطرفين المتقاتلين في مواجهة بعضهم البعض في صفوف متوازية. وتنبع أهمية هذه المرحلة من ارتباط الحرب فيها بمعنى النظام، فطريقة إعداد أرض المعركة وطريقة اصطفاف الجنود كانت تعكس تصورا منظما للحرب، وهو نفس التصور الذي يفرق بين التقاليد العسكرية والحياة المدنية، حيث الأولى توصف بأنها نموذج للنظام في أقصى صوره، فيما الثانية توصف بأنها مثال للعشوائية وغياب التخطيط. حتى صار التناقض بين الحياة العسكرية والحياة المدنية عادة ما يلخص في مقولة الانتظام في مواجهة الفوضى. ولكن بدأت المشاكل تواجه هذا النمط المنظم من أنماط الحروب منذ منتصف القرن التاسع عشر، فمع تطور الأسلحة النارية، صار اصطفاف الجنود في مواجهة بعضهم البعض نوعا من الانتحار، وأصبحت الطريقة التقليدية لتنظيم ساحات المعارك غير متوافقة مع التطور الذي لحق أدوات الحرب، وهذا ما دفع مخططو الحروب إلى إعادة التفكير بشأنها، إيذانا ببداية الجيل الثاني. الجيل الثاني من الحروب: بدأت حروب الجيل الثاني عندما بدأ التفكير في محاولة حل التناقض بين ثقافة النظام العسكري وبين الشكل الجديد لساحة المعارك الحربية. وينسب المؤرخون العسكريون الفضل للجيش الفرنسي في التوصل إلى هذا النمط من الحروب وذلك أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، عبر استخدام قوة النيران المجمعة، حيث كان الهدف المباشر من ذلك هو استنزاف قوة الخصم. وقد لخص العسكريون الفرنسيون هذه الاستراتيجية في مقولة "المدفعية تكتسح، والمشاة يحتلون المواقع". وكان التنسيق المركزي أساس في إطار هذا النمط من الحروب. وفي إطار الجيل الثاني من الحروب تمت إعادة ترتيب ساحة المعارك من خلال تقديم المدرعات والقطع الحربية على البشر، ولكن لم يتم استبدال مفهوم النظام نفسه، فقد ظل التركيز على الشكل أو الطريقة التي تدار بها المعركة، وجرى التأكيد على ضرورة ألا تخالف الاعتبارات الجديدة المعايير الصارمة للمؤسسات العسكرية، فالانضباط وتدرج الأوامر من أعلى إلى أسفل ظل هو العنصر الحاسم في إدارة العمليات العسكرية. وحتى عندما حل الطيران محل المدرعات، كمصدر للقوة العسكرية الحاسمة، لم يتغير الأمر كثيرا إذ ظلت مفاهيم النظام هي سيدة الموقف، فالطيران يضرب من السماء، والمدرعات تتقدم على الأرض، والجنود يتحركون تحت حمايتهما في ظل توجيه مركزي صارم. الجيل الثالث من الحروب: باستهلال الجيل الثالث من الحروب، والتي ينسب الفضل في ابتكارها إلى القوات المسلحة الألمانية، تم تطوير تكتيك جديد للمناورات، فلم تعد قوة النيران هي العنصر الحاسم، ولكن السرعة والقدرة على المناورة، فالطرف المهاجم في إطار هذه الحروب يسعى للوصول إلى نقاط العدو الخلفية ومهاجمتها، فيما يسعى الطرف المدافع إلى استدراج العدو وقطع خطوط إمداده. بعبارة أخرى فإن التخطيط العسكري في إطار حروب هذا الجيل لم يعد يستهدف مجرد محاولة التقدم إلى الأمام، أو كسب الأرض على نحو مستمر، ولكن تطويق العدو، وإيقاع الهزيمة به عبر نقاطه الضعيفة. وفي إطار حروب هذا الجيل حدث قدر من التحرر من مفاهيم الانضباط التقليدية، لصالح التركيز بشكل أكبر على النتائج، ففي بعض الأحيان قد يتطلب النجاح على الأرض مخالفة تعليمات القيادة، بل إن الطريقة التي تصاغ بها الأوامر نفسها قد تغيرت، فلم تعد تحدد الأسلوب بقدر ما أصبحت تركز على الهدف المتوخي تحقيقه، وهنا أصبح للمبادرات أهمية أكبر من مجرد طاعة الأوامر والالتزام الحرفي بها. حروب الجيل الرابع: ورثت حروب هذا الجيل العديد من صفات الجيل الذي سبقها مثل اللامركزية وأولوية المبادرة على الطاعة العمياء، ولكنها اتصفت في الوقت نفسه بعدد من الخصائص الإضافية الحاسمة التي سنعرض لها في المقال القادم إن شاء الله.