18 سبتمبر 2025
تسجيلعندما انتقد البعض وقوف رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوجان إلى جانب معمر القذافي في بداية الأحداث في ليبيا عزا أردوجان ذلك إلى أن المصالح هي التي تملي المواقف. كانت مصالح تركيا الاقتصادية في ليبيا كثيرة ووازنة. لكن مع تبدل موازين القوى كانت أنقرة تنحني للعاصفة وتسير معها وصولا إلى المشاركة في عمليات حلف شمال الأطلسي العسكرية. كانت سياسة تركيا في تصفير المشكلات مع الدول العربية قبل الثورات العربية قائمة على التعاون مع الحكومات والأنظمة في هذه الدول التي منها القومي ومنها الجمهوري ومنها الملكي ومنها الديمقراطي ومنها المؤيد للغرب ومنها المؤيد لروسيا ومنها المحايد وما إلى ذلك. بعد ذلك بدأت أنقرة "تطوّر" مقاربتها إلى الأحداث في العالم العربي انطلاقا من الحدث السوري تحديدا الذي وقفت تركيا إزاءه موقفا متدرجا وصولا إلى إعلان"الطلاق البائن" الذي لا عودة عنه. رفعت حكومة حزب العدالة والتنمية شعار الوقوف إلى جانب المظلومين ومع الشعوب وضد الأنظمة. وقام وزير الخارجية أحمد داود أوغلو بـ"عملية التفاف" ذكية، وإن كانت مكشوفة، بتحوير مضمون سياسة تصفير المشكلات من تصفيرها مع الأنظمة إلى تصفيرها مع الشعوب. رفع المسؤولون الأتراك شعارا كبيرا وهو أن التحول الديمقراطي في المنطقة مصلحة تركية تخدم الاستقرار. ومن ليس متصالحا مع الشعب لا يمكن أن يستمر في السلطة. لا أحد يعترض على الشعارات الجميلة. وليس أفضل وأبرع من الولايات المتحدة الأمريكية في رفع شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، هذا "المثلث الذهبي" الذي غالبا ما تحوّل على يد الغرب إلى مثلثات ومربعات للدماء ونهب الثروات من العراق إلى أفغانستان وبالطبع في فلسطين حيث لا أحد يرى أو يسمع أو يتكلم. تركيا تضع معاييرها الخاصة في التعامل مع القضايا والمشكلات. شيء جميل ومطلوب أن يخلق كل مجتمع نموذجه ومعاييره الخاصة به وألا يبقى رهينة استيراد النماذج والشعارات كما يستورد السيارة والكمبيوتر والدبابة ومقص الأظافر. منذ عدة أسابيع وتركيا تشهد حركة سياسية وأمنية كثيفة لا تجذب الانتباه في الخارج لأن الجميع منشغل بثورات العرب شرقا وغربا. منذ أسابيع ورئيس الحكومة التركية أردوجان يتحدث عن رفض حكومته أن تكون في تركيا "دولة موازية". وكان يقصد بذلك سيطرة عناصر موالية لحزب العمال الكردستاني على مناطق ومحافظات ذات أكثرية كردية في إطار مطالبة الأكراد بحكم ذاتي لهم في جنوب شرق تركيا. ومن أجل مواجهة "الدولة الكامنة" الموازية أطلقت حكومة حزب العدالة والتنمية حملة اعتقالات واسعة جدا لا تزال متواصلة منذ عدة أسابيع لاسيَّما بعد انتهاء الانتخابات النيابية. ومع أن من الأسباب المباشرة لهذه الحملات إنهاك الشارع الكردي وحرمانه من قياداته بعدما حقق حزب السلام الكردي الموالي لحزب العمال الكردستاني انتصارا كبيرا في المناطق الكردية على حزب العدالة والتنمية، فإن للتطورات في المنطقة العربية لاسيَّما في سوريا دورا مؤثرا في عمليات الاعتقال الواسعة. ذلك أن دخول المنطقة العربية المجاورة لتركيا حالة من التوتر والتخوف من دخولها حالة من الفوضى وربما الحروب الأهلية، ومع اقتراب الانسحاب الأمريكي النهائي من العراق بعد رفض حكومة نوري المالكي بقاءها بعد نهاية العام الجاري، أي بعد شهر فقط، هي أيضا من العوامل التي تساعد على حركة أكبر لحزب العمال الكردستاني وأذرعه السياسية في الداخل. وتتخوف تركيا كثيرا من عدم قدرتها على مواجهة النزعة الكردية المتنامية التي تستلهم أيضا من شعارات الثورات العربية لترفع الصوت مطالبة بسقوط سياسات العزل والحجر والاضطهاد للهوية الكردية. والمفارقة أن عمليات الاعتقال التركية للأكراد لا تشمل عناصر عادية أو من الطبقة "السفلى" من الأكراد بل تطال النخب الثقافية والسياسية والنقابية والاقتصادية ولا تستثني نوابا أكرادا سابقين ورؤساء بلديات حاليين ورؤساء فروع وقيادات لحزب السلام والديمقراطية بل طالت أيضا المحامين الذين كانوا يلتقون زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل في تركيا عبدالله أوجلان ولم توفر الحملة مخرجين وممثلين وأساتذة جامعات وكتّابا وصحفيين متعاطفين مع الحركة الكردية ومع مطلب نشر الحريات وترسيخ الديمقراطية. وتطرح هذه العمليات سؤالا كبيرا عن مدى تحمل القاعدة الكردية لها وإمكانية تطور ردود الفعل إلى انتفاضة مدنية واسعة تدخل تركيا في "ربيع كردي" خصوصا أن النائبة الكردية جولتان كيشاناك وهي نائبة رئيس حزب السلام والديمقراطية الكردي قد حذرت من أن "نهاية" أردوجان ستكون مثل نهاية الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك. وهو ما يستدعي التساؤل عن مدى مصداقية شعار تصفير المشكلات مع الشعوب في الخارج، في وقت يتم تعطيله في الداخل.