19 سبتمبر 2025

تسجيل

التخطيط الإستراتيجي النبوي

26 أكتوبر 2015

من يقرأ في سيرة النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، دون تعمق وتأمل، قد تذهب به الظنون إلى أن إنجازاته وأعماله وفتوحاته ما وقعت إلا لأنه بركة كما تقول العامة عن بعض الصالحين والمشايخ.. نعم هو البركة ذاتها، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك فحسب، كي لا نعيش على مثاليات ونترك الجد والاجتهاد، فقد كان أبعد وأعمق وأكثر مما يمكن تصوره.خذ مثالاً على ذلك، هجرته من مكة إلى يثرب. فقد يظن كثيرون أنه قام من الليل واصطحب الصِّديق، رضي الله عنه، وركبا راحلتيهما نحو يثرب، أو هكذا كانت الهجرة وقصتها بكل سهولة ويسر.الأمر بالطبع لم يكن بالصورة المختصرة تلك، فقد كانت الهجرة هي أحد التكتيكات أو الوسائل التي اتخذها ضمن خطة إستراتيجية بعيدة المدى، إن صح وجاز لنا التعبير.. الهجرة كانت ضمن الخطة العشرية التي رسمها خلال وجوده بمكة، حيث نفذ مجموعة عمليات ختمها بهجرته، صلى الله عليه وسلم، من موقع إلى آخر لأمر إستراتيجي أيضاً.فقد قام عليه الصلاة والسلام بالتجهيز لهذه الرحلة مبكراً، وبدأ بحث أصحابه إلى الهجرة سراً نحو يثرب، بعد أن أعد الأرضية الصلبة لذلك عبر الاتفاقيات والعهود التي أبرمها مع الأنصار في بيعتي العقبة الأولى والثانية، فإذا ما اطمأن إلى الحاضنة المناسبة لأصحابه، بدأ بدفهم للخروج إلى تلك الدار، بعد أن كان قد أرسل دفعة من أصحابه مبكراً كفريق احتياطي يعمل من فوره في حال القضاء على الفريق الأساسي بمكة، إلى أرض لا يُظلم بها أحد، أرض الحبشة عند النجاشي.من ضمن استعداداته للهجرة أيضاً ومنذ وقت مبكر، تكليفه أبا بكر لتجهيز راحلتين تصلحان لمهمة السفر الشاق والبعيد، وكان رضي الله عنه يقوم بتعليفهما بشكل خاص ونوعية معينة من العلف الذي يقوي جسم الراحلة ولمدة كافية دون أن يلحظ أحدٌ ذلك.. ومن ضمن التخطيط أيضاً تكليفه لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، القيام بمهمة رد الودائع وفي وقت مبكر كذلك، حيث كان الناس يودعون أماناتهم عنده، صلى الله عليه وسلم، لما عرفوا عنه الأمانة.. وقام برد الأمانات كما أسلفنا مبكراً كي لا يتنبه أحدٌ لما يجري أو أن النبي صلى الله عليه وسلم يخطط للخروج من مكة، واعتباره أمراً طبيعياً يقع بين الناس في مسألة الودائع وما شابه.من ضمن التخطيط للهجرة، استئجار دليل للطريق من خارج مكة، ممن لا شأن لهم بما يجري بين محمد وقريش، وكذلك الترتيب مع أحد الرعاة أن يقوم بدفع أغنامه وقت الهجرة للسير على آثار راحلتيهما كي لا يكتشف قصاص الأثر ذلك، وتكليف أسماء بنت أبي بكر في مسألة التموين اليومي اللازم وأخيها عبد الله، وكان صغيراً، ليتتبع الأخبار في مكة وينقلها إلى النبي وصاحبه.. وهكذا كان الأمر ضمن سيناريو محكم تم التخطيط له منذ أشهر حتى وصوله، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه رضي الله عنه إلى مقصدهما وبدء مرحلة جديدة في الدعوة.. ولحديثنا بقية.