16 سبتمبر 2025

تسجيل

الشعوب وهي تثور..

26 سبتمبر 2019

الجماهير الغاضبة أو الثورات الشعبية، قوة هائلة وذات قدرة على التغيير لو اندفعت باتجاه صحيح نحو الهدف. لكن الكارثة تقع لو أنها حادت عن الطريق وضلت أو تم تضليلها أو أضاعت الهدف من هيجانها وثورتها. إذ ستجد تلك الجماهير نفسها وقد عادت إلى المربع الأول، وكأنك يا بوزيد ما غزيت – كما تقول العامة – ولعل هذا هو ما حدث وما زال يحدث بالعالم العربي منذ اندلاع ثورات الربيع العربي أواخر عام 2010. لكن هل كل حشد جماهيري سواء كان على فكر واحد أو خليط من أفكار وطموحات وآمال، ويخرج لهدف ما يبتغيه، يمكن اعتباره ثورة أم أن للثورة مفهوما آخر؟ من بحثوا فلسفة الثورات وعلم نفس الجماهير، وجدوا أن الثورة يمكن أن تطلق على حركة شعبية تحدث تغييراً ونقلة نوعية في المجتمع تشمل الجانب السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، الأمني وغيرها من جوانب. بمعنى آخر، يمكن أن نطلق على أي فوران شعبي يشترك فيه غالب قطاعات المجتمع، وقد نتج عنه تغيير واضح بيّن، أو كما يقول أهل الرياضيات: 180 درجة، ها هنا يمكن أن نقول عن الحدث إنه ثورة. لكن إن حدث تغيير جزئي في المجتمع، كتغيير رئيس النظام مثلاً أو تغيير حكومة أو النظام السياسي كله، مع بقاء بقية أنظمة الدولة كما هي، فهذا التغيير لا يمكن أن يطلق عليه ثورة، بقدر ما هو انقلاب أو انتفاضة على وضع معين أو أقرب في التعريف إلى الاحتجاج ولكن بزخم ثوري.. فلماذا لا يمكن اعتباره ثورة؟ لأن ذاك الفعل، سواء اتفقنا على تسميته بالانقلاب أو الاحتجاج، أحدث تغييراً جزئياً في المجتمع، حتى وإن تأثرت بقية أجزاء المجتمع بتغيير ذلك الجزء، إلا أنه سيبقى محدوداً، حيث لا توجد أي ضمانات أن تأثيراته ستمتد لتغير المجتمع كله، وبالتالي يحتاج إلى موجة ثانية وثالثة ورابعة وربما عاشرة ليستحق أن نطلق عليه ثورة. لعل أبرز الأمثلة التي دوماً نتحدث عنها في هذه القضايا، ذاك التغيير الهائل الذي أحدثه النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – في مكة. فما قام به خلال مرحلة الدعوة السرية ثم الجهرية أنه بنى قاعدة صلبة، يعتمد عليها مستقبلاً حين يثور ضد نظام المجتمع السياسي والاجتماعي والقيمي والاقتصادي وغيرها من أنظمة، كانت سائدة في المجتمع الجاهلي ليس بمكة فحسب، بل كل الجزيرة العربية.. إذ في غضون سنوات قليلة، تغير وجه المنطقة من مجتمع مفكك جاهلي تسوده قيم فاسدة - وإن كانت هناك قيم فاضلة راقية – وأنظمة جاهلية بالية، سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، وتتحول إلى نموذج قابل للاقتداء من بقية مجتمعات وشعوب الأرض. إذن الثورات وحتى تؤتي أكلها كما ينبغي، وتحقق نتائج تحدث أثراً في البلاد كله، لابد أولاً من وجود مسببات وعوامل تكون قد لامست الأوتار الحساسة لغالبية أفراد المجتمع، من ظلم وتجبّر منتشر صادر عن جهة الحكم والسيادة ومن يدور في فلكها ضد الجزء الأكبر من المجتمع، أو فساد مستشر في النظام الاقتصادي أو الاجتماعي أو القيمي أو غيرها من أنظمة وأسباب تدفع الناس للثوران على الأوضاع القائمة. لكي لا يحيد ذاك الفوران الشعبي عن طريقه، لابد ثانياً، أن تكون هناك قيادة توجّه وتهذب وتنظّر وتحاول ضبط الإيقاع، وإلا فالنتائج غالباً تكون كارثية، يتضرر منها الثائرون ربما أكثر من المُثار عليهم، والذين بحكم إمكانياتهم وما يسيطرون عليه من أدوات تنفيذية وصلاحيات سيادية، قادرون على إحداث فرقة أو ثغرة في المد الثوري، يمكن أن نطلق عليها بالثورة المضادة، تعمل على امتصاص الصدمة ومن ثم تبدأ بعد ذلك في تفتيت القوة الثورية، بوسائل عدة وربما بمعية قوى خارجية أيضاً، إلى أن ينتهي المطاف بالثورة الشعبية لتغيير أهدافها أو طموحاتها شيئاً فشيئاً، لتصل نهاية الأمر للبحث عن أي مكسب، وغالباً ما ستكون تلك المكاسب محدودة ومؤقتة ، ستزيد من تمكّن النظام الحاكم أكثر فأكثر، ويرجع الناس إلى ما كانوا عليه، ليجدوا أن ما خسره المجتمع بعد الثورة أكثر مما كان قبلها ! لا يمكن الحديث عن أي ثورة دون التطرق إلى ثورات الربيع العربي، باعتبارها نماذج حية قابلة للتأمل والتفاكر فيها. فما حدث خلال السنوات التسع الماضية منذ قيام ثورة التوانسة على نظام بن علي، مروراً بثورة المصريين على مبارك والليبيين على القذافي والسوريين على بشار واليمنيين على العقيد، سنجد أنها جميعاً كانت أشبه باحتجاجات وانتفاضات على وضع معين، كان أسمى الغايات هو التخلص من الصنم أو الوثن، الذي كان على شكل زعيم جاء بانقلاب واستمر عقوداً لا يتزحزح.. في تونس قامت احتجاجات هنا وهناك على حادث معين، تطور معه الوضع إلى اضطراب وفوضى رأى الزعيم فيها أن الفرار سريعاً من المشهد أفضل من التحدي والمواجهة، فتخلصت تونس بشيء من الهدوء من ذاك الصنم. لكن هل تغيرت تونس اليوم عما كانت عليه قبل 2010؟ ربما في مجالات معينة نعم، لكن آثار وجذور النظام القديم السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا تزال حاضرة، أي لا يمكن القول إنها تغيرت 180 درجة – بلغة الرياضيات - ما يعني أن الثورة غير مكتملة وتحتاج إلى مد ثوري ثان وثالث وربما عاشر حتى تخرج تونس جديدة. والأمر نفسه ينطبق على ما جرى في مصر، وما زال يجري الآن في سوريا واليمن وليبيا، ولا ننسى كذلك ما جرى من انتفاضات شعبية في السودان، وما يجري الى الآن بحذر شديد في الجزائر. الأوثان تكسرت في كل تلك البلدان السبعة، لكن في كل بلد من تلك البلدان ما زال هناك الآلاف من الأوثان والأنظمة المرتبطة بها، السياسية والأمنية والاقتصادية وغيرها. ما يفيد أن بلدان الربيع العربي بحاجة إلى دراسة ما جرى في الموجة الثورية أو الانتفاضة الأولى - إن صح التعبير - تستفيد من إيجابياتها وتتجنب سلبياتها وأخطاءها، وهذا ما يبدو هو الحاصل الآن في الجزائر، وهذا الذي أرجو أن يتنبه له الشعب المصري، وقد بدأ ينتفض من جديد والذي يتضح أنه على موعد مع مد احتجاجي متجدد، لكن واضح أنه بدأ ضاغطاً لتحقيق هدف واحد يتمثل في تكسير وتغيير الصنم، الذي انقلب وقضى على بارقة أمل في إصلاح البلاد عام 2013، وليس تغيير النظام من جذوره.. لكن مع ذلك لا أجد من الحكمة استعجال الأمور، فالمفاجآت واردة عند الشعوب المقهورة، بشرط أن تتعلم من الدروس الماضية، فالتاريخ ندرسه لاستخلاص العبر وتأمل أحداثه لأجل إصلاح الحاضر والتخطيط لبناء المستقبل.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. [email protected]