01 نوفمبر 2025

تسجيل

كم من المال والجهد فقدنا؟

26 سبتمبر 2013

في منتصف الثمانينيات زرت الوجيه جاسم درويش، رحمه الله، في منزل مستأجر في أحد أحياء مدينة كراتشي الباكستانية، وقد كان قريب لي أخبرني بوجوده في ذات المدينة التي كنت أدرس فيها، ولكني لم أعلم حينها لماذا هو موجود في هذه المدينة المزدحمة والملوثة والخطرة والتي لا يود أحد أن يعيش بها. وصلت منزله بعد صلاة المغرب وكان جالساً في حديقته على كرسي خشبي ومعه أستاذ جامعي عربي محاضر في الجامعة الإسلامية في إسلام أباد. لم يعرفني في بداية الأمر، فقد كنت ألبس لباسا باكستانيا بسروال واسع وقميص طويل يصل إلى الركبة، عندما عرفته بنفسي أجلسني بقربه مرحباً وعرفني على ضيفه ثم تفرع بنا الحديث إلى الجهاد الأفغاني الذي بدأ يتشكل حديثاً وعن وضع العالم الإسلامي بعد دخول الروس إلى كابول. بدأ المرحوم جاسم درويش بالحديث عن سبب وجوده في هذه المدينة الباكستانية، وقال إنه مكلف من قبل الأمير الشيخ خليفة بن حمد حينها بمتابعة إنشاء مجمع طبي في منطقة فقيرة معدمة في ضواحي كراتشي، ثم بدأ يحدثني عن حجم المشروع والخدمات التي سيقدمها للفقراء في منطقة أورانغي القاحلة السبخة والتي سيستفيد منها عدد كبير من المعدمين الذين لا يكادون يحصلون على قوت يومهم. كان مشروعاً طموحاً فعلا، فهو مجمع طبي كبير يحتوي على مستشفى وعيادة طوارئ وسكن للممرضين وآخر للأطباء وخدمات للإسعاف وغيرها من الأمور التي يحتاجها المركز، بدا، رحمه الله، متحمساً للمشروع وينظر إليه على أنه صدقة جارية يجب أن يتمه على أكمل وجه وبأسرع طريقة ممكنة. مرت الأيام وهو يتردد على هذه المدينة وكنت أمر عليه كلما علمت بوجوده فيها، فلم يكن يعرف سوى القليل من الناس في تلك البلاد، وكنا نجلس في ذات الحديقة وعلى ذات الكرسي، ولم يكن الحديث يخرج عن المشروع وإلى أين وصل والمشاكل التي تواجهه. وبعدها مرت فترة طويلة لم أشاهده فيها، ولكنه اتصل بي فجأة طالباً مني الحضور إلى منزله ليخبرني أنهم سلموا المشروع اليوم للحكومة الباكستانية وأن الجنرال ضياء الحق كان هناك وألقى خطبة حث فيها الحضور على الحفاظ على المشروع وعدم تخريبه لأنه هدية من حكومة قطر لهم، وأنه لن يعود إلى هذه البلاد بعد انتهاء مهمته. كان، رحمه الله، فرحاً بإتمام المشروع، فقد انزاح عنه هم كبير، ولكنه أسر لي قبل مغادرته المدينة قائلا: كنت أود لو أن حكومة قطر تكفلت بإدارة المشروع لأني لا أعلم كيف سيدار بعد تسليمه لهم، فحاولت التخفيف عنه بقولي: دعهم يتولون أمرهم، فإدارة مشروع مثل هذا تتطلب الكثير من الجهد، وهم أعلم بأمورهم، ولكنه لم يبد مقتنعا. بعد مرور سنة على آخر لقاء لنا في مدينة كراتشي قابلته في الدوحة، وقال لي: هل تذكر المشروع الذي كنت أشرف عليه في كراتشي؟ لقد تم تدميره بالكامل، فقد بقي لمدة سنة من دون تشغيل، ونشبت الخلافات بين الأجهزة الحكومية على من سيديره ومن سيصرف عليه ومن سيسكن تلك الشقق، ثم بدأ اللصوص في سرقة أجهزته وبيعها حتى سرق كل شيء منه، هل تصدق بأن إطارات النوافذ والأبواب قد سرقت، لم يبقَ من ذلك الصرح الطبي الجميل سوى أطلال مدمرة. كان حزيناً جداً وهو يتحدث عن المشروع الذي تبناه وصرف الكثير عليه من وقته وجهده، ولكن سيبقى ثواب النية الصادقة لمن موله ومن أشرف على إنشائه. وفي أواخر الثمانينيات أيضاً كنت أدرس في الولايات المتحدة في مدينة جامعية صغيرة في ولاية نيويورك، ووصلتنا دعوة من أحد مساجد مدينة الباني التي تبعد حوالي ثلاث ساعات بالسيارة لحضور حفل لجمع التبرعات بعد صلاة التراويح، وكان القصد من جمع التبرعات هو توسعة المسجد الذي بدأ يضيق بالمصلين، وخلال تلك المناسبة التي أبدع فيها شاب جزائري في إقناع الحضور بإخراج ما في جيوبهم وصلت الحصيلة إلى مبلغ كبير نسبياً يكفي لتوسعة المسجد وإضافة بعض الخدمات إليه. وبعد عودتي إلى الدوحة بسنوات إتصلت بصديق آثر البقاء في أمريكا بعد أن منعته ظروف دولته السياسية من العودة إلى وطنه الذي أحبه، وسألته عن المركز، فقال لي بنبرة حزن ظاهرة: لقد تحول المسجد إلى حسينية ولم أعد أعرف عنه شيئا. ومؤخراً زرت مركزاً إسلامياً مولته دولة قطر في إحدى دول أوروبا، وهو مركز يثير الفخر بجماله وحسن تصميمه، وبعد عودتي أرسل لي صديق من هناك بعض الأخبار التي بثها المركز عن زيارة القائمين على المركز إلى إيران ومجيء بعض الدعاة من هناك لإلقاء دروس فيه. لدي قصص غير هذه أيضاً تدل على أننا لا ندير استثماراتنا كما ينبغي، سواء إستثمارات الدنيا أو الآخرة، فأسلوب تسليم المشاريع التي تبنى بأموالنا للآخرين لإدارتها ليست بالمجمل تجارب ناجحة، حتى الخيرية منها يجب أن تكون تحت سمعنا وبصرنا، لأنها إما ستختفي أو أنها ستنتقل إلى أياد أخرى.