15 سبتمبر 2025

تسجيل

اليوم أرفعُ نسبي وأضعُ نسبكم !

26 أغسطس 2021

إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي: ألا إني جعلتُ نسباً، وجعلتم نسباً، فجعلتُ أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلانٌ بن فلانٍ خيرٌ من فلانٍ بن فلانٍ دعوها فإنها منتنة.. ما الذي يأمرنا به - صلى الله عليه وسلم - أن ندعها بسبب نتانتها وقبحها؟ ومعلوم أن الرسول الكريم لا ينهانا عن شيء إلا لقبحه وتبعاته الضارة المضرة علينا وعلى من حولنا، ولا شك أنها فعلة لا تستحق من الإنسان القيام بها، فضلاً عن الاقتراب منها، وإلا فإن قذاراتها وسوءاتها ستصيبه بصورة وأخرى. قام رجل من المهاجرين في المدينة في لحظة ضعف، بضرب رجل من الأنصار لخلاف وقع بينهما، فما كان من الأنصاري سوى أن قام ونادى: يا للأنصار، فما كان من المهاجري إلا أن قام بدوره ونادى بالمثل: يا للمهاجرين، حتى اجتمع المهاجرون والأنصار، كل فئة صوب من ناداها، حتى وصل الأمر سريعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أتى مسرعاً لموقع الجمهرة، وقال: ما بال دعوى جاهلية؟ قالوا: يا رسول الله: ضرب رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال - صلى الله عليه وسلم -: دعوها فإنها منتنة.. إنه إذن فعل التفاخر بالأنساب. هل انتهى الأمر سريعاً ؟ لا، لم ينته الأمر. فقد سمع رأس النفاق يومئذ، عبدالله بن أُبي بن سلول بما حدث بين الأنصاري والمهاجري، ووجدها فرصة لإيقاظ النعرات القبلية، فقال: فعلوها؟ ويقصد المهاجرين الذين - بحسب زعمه وعقليته العنصرية - زاحموا سكان المدينة في خيراتهم وأرضهم، فقال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل. ويقصد بالأعز نفسه ومن معه من قومه، والأذل هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم – والمهاجرين. فبلغ كلامه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان معه الفاروق - رضي الله عنه - فقام من فوره وقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن منطلق روح المسؤولية: دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. لم يستخدم النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - صلاحياته كرئيس للدولة من أجل ردع رأس المنافقين يومها، إذ كان من الممكن أن يؤدي قتله أو أي نوع من التأديب، إلى فتنة عظيمة بين المسلمين وهم بعدُ في بداية بناء الدولة. فلماذا وهو رئيس الدولة يومها، لم يستخدم صلاحياته؟ الجواب بكل اختصار ووضوح: لأنه نبي ورسول أولاً، ثم هو صاحب دعوة ثانياً. أما ثالثاً، فقد كان يرى ما لا يراه كثيرون حوله، وهو المؤيد من السماء بوحي لا ينقطع. إذ ربما في تلك الحادثة، رأى ما هو أهم من قطع عنق منافق سيهلل الجميع لموته. لكنه واضح أنه رأى تغليب المصلحة العامة على الخاصة. رأى أهمية تماسك الصف المسلم في ذلك الوقت، وأنه الأنفع للأمة من تغييب شخص واحد وإن كان سيئاً مؤذيا. وجعلناكم شعوباً وقبائل تلك القصة تدعونا للعروج إلى أصل الموضوع مدار حديثنا اليوم. فبعد أن قبّح الله فعل الغيبة كما جاء في سورة الحجرات ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ). أرجعنا سبحانه إلى نقطة البداية، وأنه سبحانه خلق الناس جميعاً من أصل واحد، وإنْ تفرّق الناسُ بعد ذلك إلى شعوب وقبائل وعشائر وعائلات وما دون ذلك. لا أحد بمقدوره الزعم والادعاء أنه يختلف عن الآخر في الأصل، كما في الحديث الشريف (كلكم بنو آدم، وآدم خُلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله من الجُعلان). يُفهم من هذا أن الدين يمقت العصبية للجنس، أو للأرض، أو للقبيلة، أو للعشيرة، أو للعائلة. كلها عصبيات لا يمكن وصفها إلا بالجاهلية التي جاء الإسلام يحاربها منذ ظهوره على أرض الجزيرة العربية، من أجل تكون فقط راية الله هي العليا، لا راية أخرى تعلوها. يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا.. نداء إلهي للناس جميعاً أنهم من أصل واحد، وأنه ما خلقهم شعوباً وقبائل إلا للتعارف وليس الخصام والتناحر – كما جاء في ظلال القرآن – " إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله. إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس ". إن أكرمكم عند الله أتقاكم إنه الميزان الإلهي العادل. " فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء سواء – كما جاء في تفسير ابن كثير - وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية، وهي طاعة الله ومتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ; ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضا، منبهاً على تساويهم في البشرية ". إن أكرمكم عند الله أتقاكم. لم يقل أغناكم ولا أعلمكم ولا أكثركم وجاهة وحسباً ونسباً وقوة، بل أتقاكم. ففي فتح مكة، خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس وهو على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال:" يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبيّة الجاهلية (أي الكبر والتفاخر)، وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجلٌ بر تقي كريم على الله، وفاجرٌ شقي هيّن على الله. إن الناس يوم القيامة يتفاضلون بينهم بالتقوى ليس غيرها. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي: ألا إني جعلتُ نسباً، وجعلتم نسباً، فجعلتُ أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلانٌ بن فلانٍ خيرٌ من فلانٍ بن فلانٍ، فاليوم أرفعُ نسبي وأضعُ نسبكم، أين المتقون ؟ خلاصة الحديث كلما عززنا العمل بالميزان الإلهي الدقيق العادل في تقييم الناس وتفضيلهم على بعض، كلما ساد العدل والأمن والأمان في المجتمعات، وضعفت الروح الجاهلية من أن تتعاظم وتسود من جديد. فالتضحيات التي قدمها رسولنا الكريم وصحبه الكرام ما كانت إلا لتحقيق العدالة بين الناس، ودفن الجاهليات والعصبيات، والحيلولة أن تقوم من جديد في أي مكان وأي زمان، وأهمية التذكير دوماً بالأصل والمنشأ، وأن الناس ( كلهم آتيه يوم القيامة فردا) فلن يكون مع المرء منا يوم أن نقف بين يدي الله، لا قبيلة ولا عشيرة ولا عائلة، ولن يبادر رئيس ولا زعيم الدفاع عنا، ولا جمعيات حقوق إنسان ولا هيئة أمم.. أنت وعملك. لا تقل إنك فلان بن علان من القبيلة الفلانية الشريفة الرفيعة.. لو كان ذلك نافعاً، لنفع عم الرسول – صلى الله عليه وسلم – أبا طالب، وهو القرشي الهاشمي ذو الحسب والنسب.. إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم.. ودعوها فإنها منتنة. رسالتان موجزتان تنفع التذكير بهما وقت الضجيج الجاهلي، في أي زمان وأي مكان. نعم، لم آت بجديد اليوم، لكن أحسبُ أنه نوع من الذكرى التي أرجو الله أن تنفع المؤمنين. [email protected]