18 سبتمبر 2025

تسجيل

ما بين القادسية ومونترو

26 أغسطس 2012

في "مونترو" المدينة الفاتنة بمطلها الجميل على إحدى بحيرات سويسرا، توقفت دون عائلتي أمام لوحة فنية جميلة لأحدق في تفاصيل تلك اللوحة التي بدا أني كنت أعرفها أو شاهدتها من قبل حيث يعرضها محل بسيط لبيع القطع الفنية والنادرة في تلك المدينة التي يرتادها دائماً نخبة من السواح بمن فيهم العرب. فقد كانت اللوحة من فن التنقيط التشكيلي لسيدة في حالة عري كامل تمسك ثعباناً ضخماً. فعدت بالذاكرة إلى بغداد حيث متحف الفنانين الرواد الذي يتخذ من دارة تراثية شيدت في العام 1909م على الشاطئ الأيسر لنهر دجلة مقرا له. فقد زرت ذلك المتحف الجميل بفكرته ومكوناته في العام 1987م عندما دُعيت من وزارة الثقافة والإعلام العراقية آنذاك ضمن وفود المثقفين والصحفيين العرب وغيرهم لحضور الاحتفالات بمرور ألف عام على تأسيس الخليفة أبو جعفر المنصور لبغداد، هذه المدينة الفاتنة بتاريخها وحاضرها حتى في أشد حالات ظروفها. فقد كانت الحرب العراقية الإيرانية مشتعلة وصواريخ البلدين المتقاتلين لا تبرح تدك كل جانب. إلا أن الثقافة والفنون كانت مزدهرة في بغداد ربما تحشيداً مبرمجاً كانت توليه الوزارة كل الاهتمام بقيادة وزيرها النشط السيد لطيف نصيف جاسم. بل كان العراق ينفق بسخاء على الجانب الثقافي رغم ظروف الحرب وهي حالة تُحسب للنظام آنذاك. فكان العسكر ينشطون للتحشيد للمواجهة في الجبهة صيانة للبوابة الشرقية للعرب كما كان شعار المعركة التي أسُميت بالقادسية بينما الوزير لطيف جاسم ببزته الخاكي العسكرية يُحشد من جانبه المثقفين والشعراء لتعميم فكر العراق ورؤيته لتلك المعركة التاريخية فكانت طوابير المثقفين لا تنفك عن بغداد أبداً فالمناسبة تتلو المناسبة هناك مابين المربد ومهرجانه العربي الضخم واجتماعات اتحاد المؤرخين العرب وغيرها من المناسبات المستمرة. فالقادسية كانت معركة مصير للأمة ولابد من التحشيد لها بكل الطاقات. لذلك كنت أنا في بغداد في عمر 18 سنة وملء فمي سؤال لا ينفك عني أبداً. لماذا أنا هنا وماذا سيضيف قلمي الغر لحماس المعركة الطاحنة التي جلبت دوافعها على الجميع ثقافة متضادة لم تنفك شفراتها بعد. عموماً كانت رحلتي تلك إلى بغداد تحتل حيزاً كبيراً في الذاكرة بالكثير من المشاهدات والمواقف فقد زرت بيت الفنانين الرواد كما يُسمى ذلك المتحف الجميل على ضفاف دجلة والذي خُصصت كل غرفة فيه لفنان كبير من فناني العراق ووضعت فيها حاجياتهم الشخصية ولوحاتهم النادرة فكان المتحف ببنائه البغدادي الفريد متعة للزائرين لاسيَّما وهم يشاهدون تاريخ الفن العريق في اللوحات المعروضة. المهم أن كل تلك الذكريات عن العراق ومتحف الرواد لازمتني وأنا أقف مشدوهاً أمام تلك اللوحة في شاطئ "مونترو" فهي تشبه إلى حد كبير لوحة الفنان العراقي أكرم شكري المولود في بغداد عام 1910م وكان أول مبعوث عراقي لدراسة الرسم خارج العراق حيث درس في إنجلترا عام 1931م واتسمت أعماله بتأثيرات الأسلوب التنقيطي الذي يعتمد تكتيكاً متفردا في استخدام الألوان وكانت له غرفته الخاصة في متحف الرواد بين كبار الفنانين العراقيين مثل بهجت عبوش وفرج عبو وعيسى حنا ونزيهة سالم وإسماعيل الشيخلي وغيرهم. فما كان مني وأنا أمام اللوحة سوى تصويرها من خلف الزجاج إذ كان المحل مغلقاً حينها وحين عدت من السفر هرعت إلى "البروفايل" التعريفي لمتحف الرواد في مكتبتي لمطابقة الصورتين لتلك اللوحة لتداهمني بعدها حالة حسرة لم تكن على اللوحة النادرة وحدها بل هي حسرة على كل العراق وكل أوطان العروبة التي تنهب ثرواتها وكنوزها لتباع على قارعة الطرق.