15 سبتمبر 2025
تسجيلعلى فراش الموت كان بكاؤه من مرة لم يسو فيها بين أحد المتخاصمين في نفسه، حيث مال قلبه لأحدهما، ولكن قضاءه كان عادلا لم يطع فيه هواه، فقد كان قاضيا عادلا يقيم القسط بين الناس ولو كانوا ذوي قربى، جاءه ابنه ذات مرة مختصماً، فاستشاره هل يرفع عليهم قضية يعلم أنه سيكسبها، أم الأحسن أن يصالحهم؟ أجابه أن ينطلق ويرفع القضية. فرفع القضية أمام أبيه فأكسبهم القضية ضدّ ابنه. فتعجّب ابنه سائلاً عن السبب - خصوصاً بعدما استشاره – فردّ: «إنّك يا بنيّ أعزّ عليّ من أمثالهم، لكن العدل أعزّ عليّ منك، وإنّي خشيت إن قلت لك أن تصالحهم أن تكون فوّتّ عليهم شيئاً من حقّهم فقضيت لهم". لكن شريح رأى الحق مع خصوم ابنه، وهاك أناس يحكمون على أقاربهم رغم أن الحق يكون لهم، حتى يقول الناس إنهم عدول، وهم بئس القضاة، فشريح لا ينظر في القضية إلا للحق فقط ولا يضيره في أي كفة سيكون ومع أي أحد سيدور. لقد حكم شريح على هذا الابن نفسه في قضية أخرى بثلاثين يوما سجنا، حيث روي أن هذا الابن كان يكفل طرفاً في قضية، فأخذ ذلك الرجل المال وهرب به، فأصدر شريح حكماً بحبس ابنه ثلاثين يوماً. في كلّ يوم كان يذهب إليه بالطعام قائلاً: «تذكّر حديث النّبيّ: لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطع محمّد يد فاطمة". لقد بات شريح مدرسة في القضاء حيث إن شهرته بالقضاء لازمته في التراث الإسلامي، قال الشعبي: كنت جالساً عند شريح القاضي، إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها وهو غائب وتبكي بكاء شديداً، فقلت: أصلحك الله ما أراها إلا مظلومة مأخوذاً حقها قال وما علمك؟ قلت لشدة بكائها وكثرة دموعها. قال: لا تفعل إلا بعد أن تتبيّن أمرها، فإن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون وهم له ظالمون. وكان يسأل عن الشهود في السوق وفي المدينة لتقييمهم، وإذا أحسّ أنّهم يكذبون قال لهم: «أنا سأقضي لك، وأظنّك كذّاب، لكن لا أستطيع أن أحكم بالظن، والشهود معك، لكن اعلم أن حكمي لك لا يحول الباطل حقا ولا الحق باطلاً، وستقف بين يدي الله يوم القيامة». وكان يمنع الذين يقضي بينهم من أن يتعاملوا معه بأي طريقة طوال فترة الحكم، وذات مرة كان يقيم رجل في بيته ضيفاً، فأراد أن يرفع إليه قضية، فخيره بين ترك القضية أو ترك بيته وكان يأخذ في الاعتبار الأبعاد النفسية للمتخاصمين، بالذات مع النساء في القضايا الزوجية. كان يجلس ذات مرة مع علي بن أبي طالب فجاءت سيّدة فقالت: «يا أمير المؤمنين زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه وهو في طاعة الله»، فردّ عليّ: «نعم الزوج زوجك»، فأعادت مقولتها مرة ثانية فلم يفهم عليّ فأعطاها ذات الإجابة ثانية. فقال له شريح: «يا أمير المؤمنين المرأة تشكو زوجها أنّه يتركها في الفراش»، فسأله كيف فهم ذلك وأمره أن يحكم بينهما. فاستحضر شريح الزّوج فسأله: «أنت تهجر زوجتك؟» قال نعم، قال: «لا يحلّ لك أن تهجرها فوق أربعة أيّام".