18 سبتمبر 2025

تسجيل

القوى الاجتماعية المحركة لبناء الدولة الوطنية في تونس

26 يوليو 2013

إن وضع الديمقراطية في المجتمع المدني وربطها بعملية الإنتاج الاجتماعية لا يستقيم دون ربطها بالقوى الاجتماعية الفاعلة، وفي هذا المجال لابد من ملاحظة أن التحولات العميقة التي جرت في معظم الأقطار العربية (نستثني هنا ما يسمى بالسلطات التقليدية)، كانت نتاج صعود فئات الطبقة الوسطى إلى قمة الهرم الاجتماعي والسياسي بعد الإجهاز على شبه البرجوازية - الإقطاعية التي سادت بعد الاستقلال. وكان صعود فئات الطبقة الوسطى في أحد جوانبه تعبيراً عن دخول السياسة في دوائر واسعة من المجتمع، وتعبئة قوى اجتماعية هائلة في مشروع الاستقلال والتحرر والتحديث، لكن فئات الطبقة الوسطى التي سيطرت على مقاليد الحكم بأداة عسكرية غالباً ألغت طابعها الاجتماعي - الطبقي في السلطة، لأنها حوّلت السلطة إلى سلطة حزب يستعد غيره من أحزاب الفئات الوسطى نفسها من حق المشاركة السياسية، مما أدى إلى تشظي الحقل السياسي سواء بفعل التنافس على المغانم والمكاسب والامتيازات داخل الأحزاب الحاكمة، أو بفعل استبعاد أو إقصاء الأحزاب الأخرى عن المشاركة في السلطة. حين كانت جميع شرائح الفئات الوسطى في العالم العربي خاضعة لاستغلال واضطهاد مزدوج من السيطرة الإمبريالية الخارجية، وسيطرة الإقطاع وكبار الملاكين والعقاريين، والبرجوازية التقليدية، كان من مصلحتها أن تصارع كلّها مع العمال والفلاحين لإسقاط الهيمنة المباشرة الخارجية، والسلطة القمعية الداخلية التي كانت تقمع الجماهير. وكانت مشكلة فئات الطبقة الوسطى الأساسية أنها متصارعة مع كبار الملاكين العقاريين، ومع البرجوازية التقليدية، ومع الاستعمار الخارجي، وبالتالي أخذت وجهاً «ديمقراطياً وثورياً»، ثم استطاعت بهذا التحالف أن تنهي أشكال الاستعمار أو الامبريالية المباشرة، وأن تصل إلى السلطة. ولذلك عندما وصلت هذه الفئات الوسطى إلى السلطة واستفردت بها، أرادت أن تنهي في الوقت عينه تحالفها مع الشرائح الثورية والديمقراطية من الفئات الوسطى، ومع العمال والفلاحين، عبر سيطرتها شبه الكاملة على الحقل السياسي في معظم الأقطار العربية، وإحالتها دون تشكل سياسي خاص للطبقة العاملة أو الفلاحين، أو لفئات المنتجين، حيث وسمت الحياة السياسية بميسمها، وبعد أن انتصرت في معركتها على الإقطاع، والبرجوازية التقليدية، تعرضت هذه الفئات الوسطى لامتحان السلطة، التي شقتها من الوهلة الأولى، وتكون تدريجياً مجتمع سلطة يستقطب الأفراد بصفتهم الحزبية الفردية الاجتماعية الطبقية، سواء في مؤسسات الدولة أو في النقابات والاتحادات أو الجمعيات، التي جعلت منها السلطة مؤسسات دولتية، فعطلت بذلك الحياة السياسية للمجتمع. فالسلطات القائمة في العالم العربي رغم تحدرها من فئات الطبقة الوسطى طردت الفئات الوسطى بوصفها قوى اجتماعية من عالمها أي أن المشاركة في السلطة لم تعد ذات طابع اجتماعي بل ذات طابع حزبي وفردي بالحصر لذلك تهشم هذا الكيان الطبقي للطبقة الوسطى، وتشظى، وانهارت تدريجياً شرائحه العليا إلى مستوى الشرائح الدنيا، وتحولت شرائحه الدنيا إلى جماعات مهمشة، وكان تشظي الحقل السياسي أبلغ تعبيراً عن ذلك. وبفعل السياسات القمعية التي مارستها السلطات الاستبدادية، فضلاً عن فرض أيديولوجيتها على المجتمع وتوظيف وسائل الإعلام المختلفة في عملية الفرض هذه، إضافة إلى ممارستها وظيفة اقتصادية مكنتها من السيطرة على ثروة المجتمع وقوته، لم تسمح بنشوء فئات اجتماعية جديدة، باستثناء الفئات الكمبرادورية المرتبطة بها وبروابط المشاركة أو تبادل المنافع الاقتصادية، أي أن هذه السلطات دمرت القوى الاجتماعية وشلت عملية الإنتاج الاجتماعي، وحصرت عملية الرسملة والتحديث في إطار دولتها أو على هوامشها، ولم تفلح فقط إلا في إنتاج فئة كمبرادورية سمسارة، تحالفت مع القوى الرجعية في الداخل، ومع بقايا الإقطاع وكبار الملاكين العقاريين والبرجوازية التقليدية، ومع الأنظمة الرجعية العربية في الخارج، ومع الدول والقوى الامبريالية في الخارج أيضاً، وشاركت في عملية تحويل البنى الاقتصادية وفق إملاءات المؤسسات الدولية الكبرى (صندوق النقد الدولي)، وإملاءات السوق الرأسمالية العالمية. لذلك لا تزال الفئات الوسطى المطرودة من السلطة بصفتها الاجتماعية، والفئات المهمشة، والعمال والفلاحون هم القوى الاجتماعية المؤهلة لحمل المشروع السياسي الديمقراطي في زمن ربيع الثورات العربية، على الرغم مما أصابها من ضعف وتهتك، ورغم الاتجاهات التقليدية التي استقطبت معظم الفئات المهمشة. ولا تزال هذه الفئات تؤلف ما يمكن تسميته بالكتلة التاريخية بالمفهوم الغرامشي، التي تشكل تحالفا حقيقيا بين الشرائح الثورية والديمقراطية من الفئات الوسطى، والعمال والفلاحين الفقراء ضد الشرائح العليا التي أصبحت شرائح قمعية وكمبرادورية من طبيعة جديدة، إلا أن القوى الاجتماعية التي تشكل قوام حركة سياسية شعبية وتحالف ديمقراطي عريض، تنحصر في أربع: اثنان منها تنطويان على تعدد واختلاف أيديولوجي وسياسي، وعلى ميل واضح نحو التحديث والعصرنة السياسية، في صيرورتهما الطبقية، وهما الفئات الوسطى، ولاسيَّما كتلة الانتلجنسيا، واثنان أخريان تنطويان على ضرب من وحدة إيديولوجية، وعلى ميل إلى المحافظة والتقليدية، ناتج عن تأخر الوعي، هما العمال والفلاحون. ويقع الفلاحون في الترتيب الأخير، إذ جعلت السلطات القائمة منهم قوة اجتماعية أساسية لها، بحكم طابعها الريفي، لذلك لابد أن تتصدى الفئات الوسطى على وهنها، وكتلة الانتلجنسيا لقيادة المشروع القومي الديمقراطي النهضوي العربي، وعلى مدى نجاحها في إعادة إنتاج وعي سياسي حديث ديمقراطي، وعلى مدى جسارتها، تستطيع أن تستقطب العمال والفلاحين والفئات المهمشة لمصلحة تحقيق تحالف ديمقراطي، وشل تذبذب العناصر الوطنية من الفئات البرجوازية العليا المتحالفة مع السلطة. إن الدولة الوطنية التي تنبثق عن المجتمع التونسي لابد أن تكون محايدة إزاء الأيديولوجيات على اختلافها، وإزاء النظريات السياسية أيضاً، لكن حيادية الدولة هذه لا تمس الفضاء الثقافي والحضاري للأمة، والذي هو فضاء عربي إسلامي، إلا أن كون المجتمع المدني مجتمع الإنتاج في ظل الرأسمالية يحتم قيام العلاقات الاجتماعية - السياسية على مبدأ المنفعة والربح، واستغلال فائض القيمة، أي يحتم أن يكون المجتمع المدني العربي متقاطعاً مع المجتمعات الأخرى في الحيثية الرأسمالية، التي تجعل من العلاقات الرأسمالية الواقعية ديناً واقعيا للمجتمع، ومن الإسلام التاريخي المستنير فضاء روحياً معارضاً لهذا الدين الواقعي القائم على الاستلاب والاستغلال. فالمجتمع المدني من هذه الزاوية مجتمع روحه الإسلام، ودينه الرأسمالية.