15 سبتمبر 2025
تسجيلجاء الزلزال البريطاني مساء الخميس مزلزلا للعالم ليس في مجال الاقتصاد والمال فحسب وإنما في الجانب السياسي أيضًا، فلم يتوقف الأمر عند هبوط سعر صرف الجنيه الإسترليني إلى مستوى 1.37 دولار للجنيه الواحد، بل هبطت معظم مؤشرات الأسهم العالمية خاصة في باريس وطوكيو ولندن ونيويورك، وقدم رئيس الوزراء البريطاني استقالته، ورشحت توقعات بأن تطالب أسكتلندا بالاستقلال عن التاج البريطاني، وربما أيرلندا الشمالية أيضًا. وكتعبير عن حالة الخوف والترقب لما سيحدث في الأسبوع المقبل ارتفع سعر أوقية الذهب إلى مستوى 1319 دولارا. المعروف أن البريطانيين كانوا غير راغبين في عضوية الاتحاد الأوروبي، وقد عمقت مسز تاتشر من ارتباطها بأوروبا في الثمانينيات عندما بدا أن الفكر الرأسمالي الذي قاده ريجان قد انتصر على الفكر الماركسي، الذي بانت ملامحه بخروج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان، ثم انهيار الكتلة الشرقية في عام 1991، وبتفتت الاتحاد السوفيتي إلى جمهورياته الأصلية. لكن البريطانيين عطلوا مسيرة الاتحاد برفضهم الانضمام إلى عملة اليورو التي تم تدشينها في عام 1999، وتمسكوا بالجنيه الإسترليني الذي يمثل أحد معالم جوهرة التاج البريطاني. ورغم استفادة بريطانيا من عضويتها في الاتحاد في مجالات عديدة تنتج عادة عن انفتاح الأسواق وحرية تبادل السلع ورؤوس الأموال، إلا أنهم قد تضرروا في المقابل من انفتاح السوق البريطاني على العمالة الرخيصة القادمة من دول أوروبا الشرقية، والتي زاحمت العمالة البريطانية في عقر دارها. وبذلك يكون العالم على أبواب مرحلة جديدة بدأت ملامحها تتشكل منذ سنوات الأزمة المالية العالمية في عام 2008/2009. فالأزمة خلقت لأوروبا مشاكل مالية معقدة تتمثل في ديون بعض الدول الأعضاء وفي مقدمتها اليونان التي كادت تفقد عضويتها في مجموعة اليورو، وتباطأ النمو الاقتصادي في دول المجموعة، وسادت حالة من انخفاض معدل التضخم إلى مستويات قريبة من الصفر، وتم اعتماد فائدة سلبية على الودائع من جانب البنك المركزي الأوروبي في محاولة لدعم النشاط الاقتصادي. وجاءت الأزمة في منطقة الشرق الأوسط لتلقي بظلالها على الأوضاع في أوروبا، خاصة مع سيل متدفق من اللاجئين السوريين والعراقيين، ومن شمال إفريقيا يغزو أوروبا على موجات يصعب وضع حد لها. وفي ظل هذه التطورات بدأ اليورو يتراجع ويتصدع، فخسر الكثير أمام الدولار في عامي 2014 و2015، وإذا كان اليورو هو عنوان الاتحاد الأوروبي، فإن تراجعه المستمر يضع علامة استفهام على مدى قدرة الاتحاد على البقاء في وجه العواصف الاقتصادية والمالية والسياسية. ولأن الجزر البريطانية تقع في البحر خارج امتداد القارة العجوز، وقد حماها ذلك في الحرب العالمية الثانية من الاجتياح الهتلري، فإنه قد بدا للبريطانيين أنهم سيكونون في وضع أفضل لو تركوا سفينة الاتحاد الأوروبي، فلا يلتزمون بقرارات يشرعها الاتحاد قد تكون في غير صالحهم، ويقفلون الباب في وجه الهجرات السكانية القادمة من أوروبا أو آسيا وإفريقيا. لكن ربما لا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يزداد التصدع البريطاني حدة إذا استعملت أقاليم المملكة المتحدة حقها الدستوري والديمقراطي في التصويت لمزيد من الانشقاقات بين أقاليمها المختلفة أسكتلندا، وإنجلترا، وويلز وأيرلندا الشمالية؟ لكن هذا الزلزال قد لا تقف تبعاته على بريطانيا وحدها، بل سيترك آثارًا عميقة على الاتحاد الأوروبي نفسه، في الوقت الذي يعاني فيه الاتحاد من مشاكل عديدة، فماذا لو قررت فرنسا أو ألمانيا وهما أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي، وفي منطقة اليورو أيضًا، أقول ماذا سيحدث لو أنهما قررتا العودة –من خلال صناديق الاستفتاء أيضًا - إلى الدولة القومية، ألمانيا، وفرنسا... لقد كان الاتحاد الأوروبي حلمًا للأوروبيين في مواجهة الخطر السوفيتي الداهم بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد تطوير أسلحة الدمار الشامل الذرية والهيدروجينية، ولكنه أصبح في القرن الحادي والعشرين صداعا مستمرا ذا تكلفة عالية جداَ، من دون فوائد مغرية لا على صعيد الأمن والأمان، ولا على صعيد الرخاء والاستقرار.وما يعنينا في قطر ودول مجلس التعاون، هو تأثير هذا الزلزال، وتبعاته على الأوضاع الاقتصادية والمالية في المنطقة، وعلى استثماراتها الضخمة في أوروبا وباليورو. ويستتبع ذلك بالضرورة إعادة رسم استراتيجيات الاستثمار المالي والمباشر في أوروبا والعالم، وربما في الجانب السياسي أيضًا إعادة رسم التحالفات على ضوء ما حصل، وما قد يحصل..ويبدو أن العالم لا يزال يحمل العديد من المفاجآت والتطورات؛ بدأت بانهيار دول في الشرق الأوسط، ومحاولات لإعادة رسم خريطته، وتراجع الاقتصاد الصيني، وانهارت أسعار النفط، وغرق اقتصاد أوروبا في حالة من الضعف وعدم النشاط، وتفاقمت أزمة اللاجئين، ومن ثم بريطانيا خرجت من الاتحاد الأوروبي، فماذا بعد؟