30 أكتوبر 2025
تسجيلتحولت الأزمة العراقية إلى قضية تشغل اهتمام الدول الإقليمية الشرق أوسطية والدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، حيث تسارعت التصريحات الغربية التي باتت تنادي بضرورة تشكيل "حكومة وحدة وطنية"، واعتبار حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي المدعومة من إيران، سبباً رئيسياً في اندلاع الأزمة.فقد شدّد الرئيسان الأمريكي والفرنسي - باراك أوباما وفرانسوا هولاند، مساء أمس، في بيان في ختام محادثات هاتفية بين الرئيسين،" على خطورة الوضع وعلى ضرورة إيجاد حل سياسي دائم على أساس حكومة وحدة وطنية.. واتفقا على أهمية تنسيق جهودهما من أجل التوصل إلى هذه الأهداف".وفي الوقت الذي يؤكد فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما وكبار المسؤولين الأمريكيين على ضرورة "تشكيل حكومة وحدة وطنية" متحررة من النزعة الطائفية الشيعية، وتستبعد رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي الذي تحمله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في العراق عقب سيطرة المسلحين على مساحات شاسعة من المدن السنية، فيما دعا المرجع الشيعي الأرفع في العراق السيد السيستاني إلى تشكيل حكومة تتدارك الأخطاء.وجهت إيران انتقادات علنية إلى الإدارة الأمريكية بشأن تعاطيها مع الملف العراقي، حيث اعتبر مساعد وزیر الخارجیة للشؤون العربیة والأفریقیة حسین أمیر عبد اللهیان أنّ الرئيس باراك أوباما يفتقد "الإرادة الجادة لمواجهة الإرهاب في العراق والمنطقة"، مضيفاً أنّ "أمريکا ترکز الیوم في العراق علی تصعید الطائفیة، بدلا من التركيز على مكافحة الإرهاب وعلی الوحدة الوطنیة وسلطة الحكومة ومؤسسات الدولة". واعتبر أنّ "تسویة الأزمة العراقیة تكمن في خطوتین واضحتین" هما الوحدة الداخلية، إضافة إلى الوحدة في العملیة السیاسیة علی "أساس نتائج الانتخابات البرلمانیة الأخیرة في العراق".وكان الرئيس الأمريكي باراك أوباما، قال في البيت الأبيض إن "إيران يمكن أن تضطلع بدور بناء إذا وجهت الرسالة نفسها التي وجهناها للحكومة العراقية ومفادها «إذا تدخلت إيران عسكرياً فقط باسم الشيعة، فإن الوضع سيتفاقم على الأرجح». إن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي عاجز عن اجتراح معجزات من نوع: تجريد ميليشيات حليفة ومعادية من السلاح، وتأمين بغداد لفترة مديدة، تقاسم الثروة، وتعديل الدستور، وتوسيع المشاركة السياسية لكي تشمل الطائفة السنية العربية التي تعيش حالة من التهميش، وإعادة النظر باجتثاث البعث، وبناء مؤسسات أمنية وطنية ذات طابع جمهوري، والتزام إنجازات مرحلية محدّدة، وحل مشكلات اقتصادية واجتماعية، وأخذ مسافة عن البيئة الطائفية المرتبطة بإيران التي أوصلته إلى حيث هو، إلخ... إنها مطالب لا يقدر عليها هذا إذا كان يريد تنفيذها أصلاً.هناك خريطة معقدة للميليشيات الرئيسة الموجودة على الأرض، إذ يمكن تقسيمها إلى عدة أقسام منها ما يعتبر نفسه جيشا عقائديا مثل جيش المهدي، ومنها ما غير اسمه إلى مؤسسة مجتمع مدني مثل "منظمة بدر". ويقابل هذين الفصيلين الشيعيين فيلق عمر وأيضا تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، والتي تعتبر من أخطر الجماعات العاملة في العراق.. وهناك الميليشيات المخصصة لحماية الوزارات، وهي الأخطر لأنها تعمل وتتحرك بهويات وأسلحة الحكومة من دون رقيب أو حسيب. وفي العراق هناك أكثر من ثلاثين وزارة، وهناك أيضا عصابات منظمة، وأخيرا المافيات المسلحة، وشركات الحماية التي تعمل دون غطاء معروف أو لمن أو مع من. وفضلا عن ذلك، فإن الناس الذين يحملون السلاح من غير المؤدلجين في الشارع ناجم من عدم قدرة الحكومة العراقية على حماية من يسلم سلاحه للدولة في الوقت الراهن.. وهذا مرتبط بالمشروع السياسي الوطني الغائب الأكبر حتى الآن، والذي يصاحبه بطالة كبيرة، وفساد إداري مستشر.. فالميليشيات لا تحل بقرار حكومي بل تحتاج إلى قرار سياسي من جميع المشاركين في العملية السياسية، يبدأ باقتناع الأطراف السياسية العراقية بأهمية إلقاء السلاح، واحترام بناء دولة الحق والقانون، ثم منع التدخلات من دول الجوار، لاسيما إيران بالشأن العراقي.وأدت عملية إلغاء إنتاج السياسة في صلب المجتمع العراقي كله، إلى حصر السياسة في دائرة السلطة، الحكومة، أو الحكومة- السلطة، وإلى زيادة الطابع الاستبدادي لحكومة نوري المالكي الطائفية، الذي لم ينجم فقط عن طبيعة القوى الاجتماعية أو الفئة الاجتماعية المسيطرة على الدولة، بل ينجم عن بنية الدولة ذاتها ومن وظيفتها وميلها إلى مزيد من التفسخ والعودة إلى البنى الاجتماعية الإثنية والطائفية ما قبل القومية في إطار المزيد من التبعية، وهذا ما أصبحت تعيشه الدولة العراقية.. أما الدولة الوطنية فهي من هذه الزاوية دولة ديمقراطية بمعنى كونها دولة المجتمع التي يشعر كل مواطن بأنها صورته السياسية وملاذه، وضامن حقوقه، وحريته.إن المدخل الواقعي لإعادة بناء الوحدة الوطنية في العراق هي الصيغة التي تتحدد في ضوئها مهمات بناء الدولة الوطنية في هذا البلد العربي، الذي يعيش أجواء حرب أهلية وطائفية، وهي مهمات معقدة ومتداخلة، آثرنا أن يكون تحويل الدولة العراقية الحالية ديمقراطياً وقومياً مدخلاً إليها. وإذا كان من الضروري إيضاح الخطوط الرئيسية لاستعادة بناء الدولة الوطنية، فإن هذه الخطوط هي: أولاً: تحقيق التحول الديمقراطي في العراق، والتحول الديمقراطي في الدلالة اللفظية المرحلة الانتقالية بين نظام غير ديمقراطي ونظام ديمقراطي، فالنظام السياسي الذي يشهد تحولا ديمقراطيا يمر بمرحلة انتقالية بين نظام غير ديمقراطي في اتجاه التحول إلى نظام ديمقراطي.. وبناء على ذلك فالنظام الديمقراطي هو النظام الذي يسمح بمشاركة سياسية واسعة في إطار الميكانيزمات الانتخابية، والاعتراف بمبدأ التداول على السلطة والمشاركة في عملية اتخاذ القرارات، فمفهوم الديمقراطية يتضمن فكرة جوهرية وهي قدرة السياسات العامة على الاستجابة لمطالب الجماهير، وذلك عن طريق هياكل أساسية تقوم بتعبئة المصالح.. وتأسيسا على ذلك فإن التحول الديمقراطي هو مجموعة من المراحل المتميزة تبدأ بزوال النظم السلطوية يتبعها ظهور ديمقراطيات حديثة تسعى لترسيخ نظمها، وتعكس هذه العملية إعادة توزيع القوة بحيث يتضاءل نصيب الدولة منها لصالح مؤسسات المجتمع المدني بما يضمن نوعا من التوازن بين كل من الدولة والمجتمع، بما يعني بلورة مراكز عديدة للقوى وقبول الجدل السياسي.وعليه فالتحول الديمقراطي هو عملية تهدف إلى إعادة النظر في خارطة القوة على مستوى النظام السياسي، والعمل على إعادة التوازن بين القوى الرسمية المتمثلة في الدولة والمؤسسات غير الرسمية متمثلة في منظمات المجتمع المدني.ثانياً: إن عملية الانتقال من نظام تسلطي إلى نظام ديمقراطي، يتم فيها حل أزمة الشرعية والمشاركة والهوية والتنمية، لا تتم إلا من خلال انتهاج الديمقراطية كأسلوب لممارسة الأنشطة السياسية، فالتحول الديمقراطي يعني تغييرا جذريا لعلاقات السلطة في المجال السياسي وعلاقات التراتب في الحقل الاجتماعي. ثالثا: المقدمة الأولى للدولة الوطنية وضمانة تحولها إلى دولة ديمقراطية، تكمن في تحقيق الاندماج القومي في العراق، ونقصد بالاندماج القومي تصفية البنى والعلاقات ما قبل القومية، والانتقال من مفهوم الجماعة إلى مفهوم المجتمع المدني، ومن مفهوم الملّة الديني إلى مفهوم الأمة العلماني والديمقراطي، ومن وضعية التكسر المجتمعي وتحاجز فئات المجتمع إلى الوحدة المجتمعية السياسية - وسيرورة الاندماج القومي هذه هي ذاتها سيرورة نمو المجتمع المدني العلماني، وسيرورة بناء الدولة الوطنية وفق مقتضيات العقل ومطلب الحرّية. رابعاً: الدولة الوطنية هي التي تتبنى العلمانية، بفتح العين، وهي التنمية المنطقية والتاريخية للإنسانية، تعني على المستوى الوجودي، رفض أي سلطة على عقل الإنسان وضميره سوى سلطة العقل والضمير.. وتجلى ذلك في رفض سلطة المؤسسة الطائفية، لا رفض الدين، أي رفض سلطة مؤسسة الطائفة التي كانت ولا تزال تؤسس الاستبداد الديني وتعززه وتؤازر الاستبداد السياسي وتعززه.. وعلى هذه القاعدة لا يحق لأي جماعة أن تفرض عقيدتها الطائفية أو الدنيوية على المجتمع،ولا يحق لها كذلك أن تغض من شأن المعتقدات والمذاهب الأخرى.. العلمانية بهذا المعنى هي التجسيد العملي للمساواة.خامسا: الدولة الوطنية هي التي تتبنى العمومية، فتكون الدولة بهذا التعريف، دولة جميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، لا دولة طبقة رأسمالية أو بروليتارية ولا دولة جماعة إثنية أو عشيرة أو جماعة إسلامية، ولا دولة حزب ولا دولة طغمة تحتكر السلطة والثروة والقوة.. المجتمع المدني هو الذي ينتج الدولة السياسية أي الدولة الوطنية، تعبيراً عن كليته ووحدته التناقضية، بما هو مجتمع الأفراد المختلفين والجماعات المختلفة والطبقات أو الفئات الاجتماعية المختلفة ذات المصالح المتعارضة.سادساً: الدولة الوطنية هي التجسيد الواقعي لدولة القانون.