11 سبتمبر 2025
تسجيلفي ظل ظروف سياسية واقتصادية صعبة، وبعد سنوات من الحصار والتضييق على أبناء قطاع غزة الصامدين، وفي ظل انقسام حاد بين المقاومين في غزة، والمطبعين مع الاحتلال في رام الله، انطلقت في الثلاثين من مارس 2018 أولى مسيرات العودة. وفي حين كان التوقيت مهماً للتذكير بثورة شعبنا في الداخل عام 1976، فإن المسيرات قد انطلقت من داخل قطاع غزة باتجاه الحدود مع الكيان الغاصب. وكان اختيار الاسم مقصودا في حد ذاته ليساهم في إدخال الرعب على الصهاينة والمستوطنين، خاصة سكان المستعمرات والمناطق الجنوبية المحاذية للقطاع. وكما هو معروف، لم تقتصر المسيرات على مظاهرات تدق الطبول وتردد الأناشيد والهتافات، وإنما استحدث القائمون عليها والمشاركون فيها أدوات جديدة للنضال تمثلت في إطلاق الطائرات الورقية المشتعلة، التي تستفيد من اتجاه حركة الرياح القادمة من البحر المتوسط في الغرب، باتجاه الأراضي المحتلة شرقاً. ولم تنقطع تلك المسيرات طيلة أيام الجمع بدءا من ذكرى يوم الأرض عام 2018 حتى الذكرى 71 للنكبة في منتصف مايو 2019. وقد أحدثت هذه المسيرات المتواصلة حالة من الرعب والقلق بين سكان المستعمرات الجنوبية، لا لأنها مصدر إزعاج صوتي، ولا لأن الطائرات الورقية المشتعلة تسبب لهم الخراب في مزروعاتهم وبيوتهم فقط، ولكن لأنها تقول لهم إن أهل الأرض الأصليين مصممون على العودة إلى بيوتهم القريبة منهم في المجدل ويبنا، ونعليا، والجورة، وأسدود، وغيرها. ولم تكن تلك المسيرات في أي منها رحلات فسحة أو نزهة، ولكنها كانت جهادا بالنفس في مواجهة عدو غادر، لا يتورع عن إطلاق نيران قناصته على المشاركين السلميين فيها،، وكان بعضهم صحفيين والبعض الآخر ممرضين أو ممرضات. وعندما ضاق صدر نتنياهو بتلك المسيرات جرب قبل عدة أسابيع مقارعة أهل غزة بالطائرات والصواريخ لعلها ترعبهم، وتوقف مسيراتهم، فكانت المفاجأة أن ردت له المقاومة الصاع صاعين، وأمطرت المدن الجنوبية والمستعمرات بوابل من الصواريخ المتطورة. وقد أحدث هذا الرد خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات في عسقلان وأسدود وغيرهما، الأمر الذي ضغط على نتنياهو للتفاوض- بمساعدة مصر- من أجل وقف القتال. وخرجت غزة من هذه الجولة منتصرة وفرضت شروطها على المحتل. وبالطبع كان لدى إسرائيل قوة صاروخية ضخمة لا يمكن تجاهلها، وبإمكان نتنياهو الدخول في حرب شرسة ضد القطاع كما حدث في عام 2014 و 2009، ولكن مثل هذه الحرب ستكون عواقبها وخيمة وتعرقل مخططاته على أكثر من صعيد: *-فمن ناحية سيكون رد المقاومة أقسى مما استخدمته حتى الآن بفضل التطوير المستمر في منظومتها الصاروخية. وستكون تلك الحرب وبالاً على المستوطنين وعلى سكان عسقلان وأسدود وغيرهما. ومثل هذه الخسائر سيكون لها تأثير سلبي على الاقتصاد الإسرائيلي، وتعمل على حدوث هجرات عكسية إلى خارج إسرائيل، وتبطئ معدلات الهجرة للداخل. *- إن هكذا حرب ستكون لها تأثير سلبي وتعطل نجاح خطط التصالح مع أنظمة عربية في المنطقة، وفي مقدمتها السعودية والإمارات العربية، والبحرين وربما سلطنة عمان. المعروف أن هناك خططا لاقامة مؤتمر اقتصادي عربي إسرائيلي في البحرين قريبا للتمهيد للتطبيع السياسي وفرض صفقة القرن. *- إن هكذا حرب شرسة- لو وقعت- ستعيد إلى الواجهة صورة إسرائيل في العالم كدولة ترعى الإرهاب، وأنها هي مصدر الإرهاب الأول في العالم. ويمكن القول اليوم، انه بفضل مسيرات العودة القوية والمستمرة، وبفضل مؤازرة أهلنا في الضفة الغربية لها سواء من خلال العمليات الاستشهادية التي قام بها أبطالنا باستخدام الأسلحة البيضاء ضد الصهاينة، أو من خلال صمودهم وتصديهم لمحاولات العدو تركيب أبواب الكترونية لبعض أبواب المسجد الأقصى في الصيف الماضي، وافشالهم لتلك المخططات، أقول إن ذلك كله قد عرقل حتى الآن الخطط الموضوعة لتمرير صفقة القرن على المستوى العربي. ولقد أعجبني ما قرأته قبل أيام في توصيف مسيرات العودة، بأنها مشروع وطني طموح ويشكل حالة إجماع فلسطيني غير معهود من مدة، وانه في ظل أجواء التآمر الفاضح لتمرير صفقة القرن، فإن على غزة مواصلة الحشد الجماهيري، واستحداث فعاليات، وإرباك الاحتلال بمفاجآت، مع الحفاظ على درجة عالية من السيطرة والانضباط. كما أن مسيرات العودة تملك رسالة للعالم مفادها بأن شعبنا عصي على الذوبان، وأنه يبدع من ألمه أملاً، ومن جراحه يعزف لحناً للحرية. ولا أنسى في ختام مقالي هذا أن أوجه التحية والإجلال للشعوب المؤازرة لنضال الشعب الفلسطيني، وإلى دولة قطر بالذات، وسمو أميرها المفدى الذي لا يتأخر عن دعم أهلنا في فلسطين بالجهد والمال، وبالرأي الحر تنقله وسائل إعلام قطرية حرة.