18 سبتمبر 2025

تسجيل

الخرطوم وأمبيكي وبيع الغرر

26 مايو 2012

المتابع لمجريات المسرح السياسي في السودان، يكاد لا يفهم (التفريط) الذي تمارسه الحكومة السودانية في أوراق اللعب المهمة التي بحوزتها، الأمر الذي يعرضها باستمرار لخسارة معاركها السياسية مع خصومها.. كان بيد الخرطوم ورقة مهمة وهي استفتاء جنوب السودان لكنها قدمته على طبق من ذهب إلى جوبا دون أن تشترط حل القضايا العالقة أولا لكن ذلك لم يتم، بيد أن واشنطن كانت ستضغط بقوة على جوبا للوصول إلى حلول لتلك القضايا حتى تضمن انفصال الجنوب في أقرب وقت.. فإن لم توافق الخرطوم على الاستفتاء لكان بوسعها الحصول على تنازلات مهمة من جوبا.. اليوم حقق ثامبو أمبيكي رئيس جنوب إفريقيا السابق ورئيس ما يعرف بالآلية الإفريقية رفيعة المستوى التابعة للاتحاد الإفريقي، مجدا على حساب السودان وقضاياه.. حسنا ليس هذا ذنب الرجل، ولكن الذنب ذنب الحكومة السودانية (الطيبة).. كيف توافق الخرطوم للسيد أمبيكي بالإفراج عن أربعة جواسيس أجانب ضبطتهم عقب انجلاء معركة هجليج، هكذا من دون مقابل ومن أول محاولة للرجل الذي هو الآن في غاية الدهشة لسرعة استجابة الحكومة و(طيبتها) غير المسبوقة؟! هل تريد الحكومة أن يتحدث المجتمع الدولي وتسير الرياح بطيبتها وأريحيتها، ثم من بعد ذلك تصفق لها أمريكا وترفع عنا عقوباتها الظالمة وتذيل اسم السودان من القائمة السوداء (الدول الراعية للإرهاب)؟! بعد (3) أسابيع فقط من القبض على أولئك الذين تتهمهم الخرطوم بالتجسس حصلوا على حريتهم ليعودوا ربما ثانية لممارسة جاسوسيتهم، بل ليتوجوّا أبطالا في بلادهم ويوقعوا عقودا ضخمة مع مختلف وسائل الإعلام ليحكوا قصة بطولاتهم وربما يعبروا، ليس عن طيبة الحكومة السودانية ولكن عن (غفلتها).. لقد مارس أمبيكي بيع الغرر على حكومة الخرطوم التي حتما ستقبض الريح ثمنا لتلك (الطيبة) المتناهية.. أتدرون ما هو بيع الغرر؟ هذا ليس سؤالا نفترض فيه جهل القراء بهذا النوع الفاسد والمحرم من أنواع البيوع، لكنه سؤال استنكاري نوجهه إلى الحكومة السودانية التي من المؤكد ستقبض ريح وعود أمبيكي الذي لا محالة ناكص بسبب تعنت ودلال حكومة سلفاكير.. نعم البيع الغرر هو أن يباع المجهول كاللبن في الضرع، والسمك في البحر، والمحصول قبل حصاده.. وزير الخارجية الغارق في بركة قرار مجلس الأمن رقم (2046) بشر باتفاق مع أمبيكي قائلا: (بالتأكيد هناك تفاهم سياسي مع أمبيكي الذي يتولى مهمة الوسيط ويجد الدعم من الاتحاد الإفريقي ومجلس الأمن).. العجيب وحتى بعد إطلاق سراح الجواسيس نجد وزير الدفاع يصف وجود الأجانب الأربعة البريطاني، والنرويجي، والجنوب إفريقي، وضابط من دولة جنوب السودان، في منطقة هجليج عقب تحريرها وطرد الجيش الشعبي بأنه مريب؟! السيد وزير الدفاع قدم مفهوما جديدا للسياسة الدولية وهو الكرم كواحد من أدوات العمل الدبلوماسي فقد قال: (إن الحكومة أجرت معهم التحريات إلا أننا أطلقنا سراحهم تكريماً لجهود أمبيكي)!!. أكثر ما أثار غضبي وحنقي، أن وافقنا جدلا على ضرورة أن نُعمل مفهوم الكرم و(نتكرم) على حكومات الجواسيس بريطانيا، النرويج، وجنوب إفريقيا، لكن ما كان يجب إطلاق سرح (الجاسوس) الذي ينتمي لدولة الجنوب.. لسان حال المواطن السوداني يقول يا جماعة الخير.. يا حكومتنا الرشيدة، أنعمي علينا بـ(فهّامة) حتى نفهم معاك ما يجري من أحداث. أمبيكي الذي نعرفه لن يستطيع إقناع الحركة الشعبية بوضع الملف الأمني في مقدمة أجندة الحوار المزعوم مع جوبا وهذا ما تتلهف إليه حكومتنا، فقد أعلنتها صراحة بضرورة أن تتضمن الأجندة أولا تسوية الملف الأمني.. وبما أننا على قناعة بأن جوبا سوف تماطل وتمتنع فإن الحوار المزعوم سيكتب له الفشل من أول جولة لا محالة، لأن أي مفاوضات تبدأ دون الاتفاق على الأجندة سيكون الفشل مصيره. لقد خذل الاتحاد الإفريقي، ممثلا فيما يعرف بمجلس الأمن والسلم الإفريقي الحكومة السودانية، حينما أحال المشكلة بين الخرطوم وجوبا إلى مجلس الأمن برفقة خارطة طريق بنى عليها المجلس قراره رقم (2046) تحت البند السابع، وقد كان قرارا متحيزا ضد الخرطوم.. ذلك القرار الذي كاد يعصف بتماسك الحكومة السودانية لما أثاره من جدل بين موافق عليه بتحفظ، وبين رافض له جملة وتفصيلا.. تلك الإحالة فاجأت الخرطوم حتى أن وزير الخارجية السودان قال إنه على قناعة بأن بعض أعضاء مجلس السلم الإفريقي شاركوا في (المؤامرة).. عندما حاولت الخرطوم الاستنجاد بروسيا في مرحلة مشروع القرار، قالت روسيا متعللة أن المشروع استند إلى ما جاء به الاتحاد الإفريقي والسودان عضو في ذلك الاتحاد وفي مجلس السلم الإفريقي كذلك ومع ذلك لم يستطع أن يفعل شيئاً؟! وهكذا أضحى الاتحاد الإفريقي الذي يتحرك أمبيكي تحت مظلته واحدا من الأدوات الدولية المسخرة لصالح جوبا، وضد الخرطوم.