17 سبتمبر 2025
تسجيليكاد يتفق معظم المحللين في تركيا على أن التوصل إلى حل للمشكلة الكردية في تركيا سيشكل انقلابا في موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط. ذلك أن هذه المشكلة عمرها يقارب أكثر من قرن وإن بدأت بالتمظهر على الأرض بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتقسيم المنطقة العربية وفق اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916. ومع أن المشكلة الكردية ظهرت في كل الدول التي يوجد فيها أكراد ولاسيَّما إيران والعراق وسوريا، غير أنها وصلت إلى مستويات عالية من الحدّة والاضطهاد وسفك الدماء في تركيا تحديدا بعد إعلان مصطفى كمال مباشرة تأسيس الجمهورية التركية. ومنذ ذلك الوقت عانى الأكراد كثيرا على يد النظام التركي فأنكرت هويتهم القومية وقتلوا وهجَّروا من أماكن سكناهم وأحرقت قراهم وعومل الكردي بأسوأ ما تكون عليه المعاملة. ومع تأسيس حزب العمال الكردستاني عام 1978 وما تلى ذلك من تطورات أدخلت القضية الكردية في تركيا مرحلة جديدة خرجت من أن تكون مجرد قضية محلية لتكون جزءا من اللعبة والصراعات الإقليمية والدولية وهو ما كانته فعلا أيضا المشكلة الكردية في العراق. كلما اشتد الصراع الإقليمي والدولي وظهرت التوترات كان العامل الكردي محط اهتمام واستخدام القوى المعنية. وهذا كان من عوامل عدم التوصل إلى حل للمشكلة. والجميع رأى كيف سقطت الحركة الكردية التي قادها مصطفى البرزاني في العراق على مذبح التواطؤات الدولية بعدما تفاهم شاه إيران مع النظام العراقي حينها.كما رأينا بالعين المجردة كيف أثمرت هذه التقاطعات الدولية نفسها ظهور الفيدرالية الكردية في شمال العراق بعد الغزو الأمريكي في العام 2003. اليوم تدخل القضية الكردية في المنطقة ككل دائرة الاستخدامات الدولية في هذا الاتجاه أو ذاك. الذي يبدو حتى الآن أن الاضطرابات التي تعيشها المنطقة منذ سنتين أكثر أعادت التركيز على القضية الكردية كعامل مؤثر وربما حاسم في إدارة وجهة التطورات. من هنا ظهرت فجأة إمكانية حل المشكلة الكردية في تركيا كمدخل لوضع كل أكراد المنطقة تحت المظلة الأمريكية إذا أمكن لواشنطن ذلك. والخطة الأمريكية هي أن تقدم أنقرة للأكراد في تركيا بعضا من حقوقهم الثقافية فتفتح أمام دخول أكراد سوريا في حلقة التفاهم هذه وأمام شراكة اقتصادية - سياسية بين أنقرة وإقليم شمال كردستان الكردي. لكن السعي لتشكيل تحالف تركي - كردي في المنطقة يعيد خلط الأوراق في العمق على أكثر من مستوى ويحدث انقلابا في خريطة المنطقة وأبعد من الحسابات الظرفية التي قد تنظر من خلالها تركيا. إذ إن ظهور الأكراد كقوة وكتلة موحدة يعني إعادة فرز خريطة المنطقة ليست فقط الجغرافية بل أيضا القومية والحضارية على أسس جديدة خصوصا أن الأكراد ليسوا قلة بل يقاربون مجتمعين ما لا يقل عن 25 مليونا في الشرق الأوسط.. ولهذه المتغيرات تداعيات إستراتيجية على مستوى العالم الإسلامي. لا يمكن لتركيا مثلا، أن تتجاهل هذه الحقيقة وهي أن المسار الكردي قد بدأ ولن ينتهي هكذا بحل وسطي.المارد الكردي الذي طالما سعت كل القوى لـ "ضغطه" وإدخاله في قنينة صغيرة قد خرج من القمقم ولا يمكن إعادته إلى حيث كان. إن النزعة القومية المتشددة عند الأتراك لا يمكن أيضا الركون إلى انتهائها.حتى رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان الذي يقود الحل الآن كان إلى أسابيع قليلة فقط يطلق ذروة مواقفه المعادية للأكراد ولحقوقهم الثقافية ويطالب بإعدام عبدالله أوجلان نفسه زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل في تركيا منذ العام 1999. إذا نظرنا أيضا إلى مواقف الأحزاب السياسية الأخرى في تركيا فإنها جميعا تنطلق من نزعة قومية. وما يلفت هنا أن حزب العدالة والتنمية نفسه الذي يقود الحل كما ذكرنا هو نفسه لم يعلن بعد تفاصيل خريطة الطريق للحل. ويقول القيادي في حزب العمال الكردستاني دوران قالقان أن الحكومة التركية ليس عندها تصور محدد للحل.. وهذا يجعل من الصعب الاقتناع بأن أردوغان سيمضي بكل تصميم للحل. وهو على ما يبدو يقع بين حدّي الرغبة في كسب الأكراد كحلفاء سياسيين في معركته ضد خصومه في الشرق الأوسط وبين عدم الرغبة في إعطاء الأكراد من الحقوق ما يجعل من الحفاظ على وحدة تركيا أمرا صعبا ومفتوحا على خطر أكيد. إن تغيير خريطة المنطقة والتوازنات السياسية فيها بإعادة تموضع العامل الكردي لن يكون بمنأى عن نتائجه المدمرة لوحدة الكيانات السياسية القائمة الآن.وهي بيت القصيد فيما يمكن أن تكون عليه المواقف في المرحلة المقبلة.