15 سبتمبر 2025

تسجيل

أمريكا الكامنة في التفاصيل

26 مارس 2014

أكدنا في مقال سابق أن نشوب الثورات العربية لم يكن سيناريو رسمته أمريكا ضمن مخطط الفوضى الخلاقة، وأن الثورات على العكس مثلت إخفاقا لواشنطن التي لم تنجح في توقع نشوبها. ولكن ليس معنى أن أمريكا لم تكن وراء الثورات العربية، أنها ليست حاضرة في خلفية الصعوبات التي تشهدها حالياً.ففي أعقاب النجاح الأولي الذي أحرزته ثورات الربيع العربي، تبين بجلاء أن الولايات المتحدة قد لا تتدخل لإنقاذ الديكتاتوريات الحاكمة، ولكنها تتدخل حتما لحماية مصالحها ودعم الأنظمة التي تضمن استمرار تدفق هذه المصالح. فأمريكا — بعبارة الاستراتيجيين الأمريكيين — لا تمتلك أصدقاء دائمين ولكنها تمتلك مصالح دائمة.وهنا تجدر الإشارة إلى أن تعبير النظام أوسع بكثير من شخص رئيس الدولة أو النخبة الضيقة المحيطة به، فمبارك على سبيل المثال لم يكن هو الحليف الوحيد لأمريكا داخل النظام المصري ولكن كانت ومازالت هناك مجموعة من الحلفاء ممن قامت واشنطن بالتفاوض معهم قبل وبعد الإطاحة بمبارك، وذلك لكي تتأكد من أن التحول الذي تشهده البلاد سوف يضمن استمرار تبعية مصر للولايات المتحدة وضمان أمن إسرائيل ومصالحها. "المشكلة أن الديكتاتوريات الحاكمة تفترض أن علاقتها بالولايات المتحدة هي علاقات شخصية، ولذا يصابون بالصدمة حينما يتم التضحية بهم"، ولكن البراجماتية الأمريكية لا نهاية لها، فعند اللزوم يمكن أن تقرر الولايات المتحدة ليس فقط التضحية بحلفائها ولكنها قد تقرر المشاركة في تصفيتهم متى أصبحوا هدفا لغضب شعبي متزايد، أو وقفوا حجر عثرة في سبيل "تغييرات" تراها ضرورية للحيلولة دون اندلاع ثورات تكتسح النظام وتعطل مصالحها الإستراتيجية. وعبر الخبرة اكتسبت الولايات المتحدة حساسية التحرك بسرعة لإعلان دعم ومساندة النخب البديلة وصناعة حالة من التوافق حولها، ولكن في الحالة المصرية كانت النخبة البديلة (النخبة الليبرالية)، تعاني من الضعف الشديد وعدم الحضور المجتمعي، لذا كان لا مفر من القبول بمرحلة تحضيرية يتم فيها السماح بوصول قيادة منتخبة من الشعب، ثم القيام بعملية منظمة لإفشالها، بحيث تتدحرج السلطة منها إلى النخبة الموالية لواشنطن مرة أخرى. ووفق هذه الصيغة، صيغة الإطاحة بالحاكم والإبقاء على النظام، قبلت إدارة أوباما بإزاحة مبارك، وتغاضت عن وصول الدكتور مرسي إلى سدة الحكم، بشرط بقاء معظم السلطات خارج يده، وذلك للحفاظ على تماسك النظام الذي قامت ضده الثورة (!) وكأن القبول بوجود الإخوان في الحكم كان فقط بغرض تفريغ الحركة الثورية من زخمها، والحيلولة دون تبلور توجهات راديكالية لها.الغريب أن النخب الليبرالية القريبة من أمريكا ظلت على ضعفها حتى بعد الإطاحة بمرسي، بل إن هذه النخبة (إلا قليلا) أسرعت إلى موالاة العسكر والتحالف معهم، ومن هنا كان القبول الأمريكي بحلول العسكر محل النظام المنتخب، ورغم أن هذا لا يمثل أفضل الخيارات أمام واشنطن إلا أنها قبلت به نظرا لكون حلفائها من الليبراليين غير جاهزين. وعلى أية حال تحقق الأنظمة العسكرية العديد من المزايا لواشنطن؛ "فهي تضمن استمرار صفقات الأسلحة الباهظة الثمن، وتضمن احادية الاقتصاد وعدم تنويعه، كما أنها تقدم التسهيلات اللازمة فيما يتعلق بالحق في المرور، واستخدام المطارات العسكرية، والقيام بمناورات عسكرية على مسارح طبيعية غير متاحة في الداخل الأمريكي، فضلا عن إتاحة المواني للتموين والشحن، أو القيام بأدوار بالوكالة فيما تسميه أمريكيا الحرب على الإرهاب". ومن ناحية أخرى، ورغم توجيهها بعض النقد بين الحين والآخر للصهاينة وسياساتهم الاستيطانية، تكون هذه الأنظمة العسكرية غير راغبة وغير قادرة على الدخول في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل. وعلى هذا الأساس فإن العملية السياسية الحالية لن تؤدي إلى مفاجأة سيئة لواشنطن إذا انتهت بحكم العسكر. ولكن هل يعنى ذلك أن التحالف الأمريكي العسكري سيكون بلا مشاكل؟تبدو الإجابة بالنفي، فمن المشاكل المتوقعة لمثل هذا التحالف أنه سيرتبط بوجود الإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض، فمن المعروف أن الديمقراطيين يميلون لحماية الاستقرار والحفاظ على الوضع الراهن، الأمر الذي قد يدفعهم للقبول بوجود سلطة ذات خلفية عسكرية في بلد استهدف بثورته تحقيق الديمقراطية. الجمهوريون على العكس عادة ما يكونون أكثر جرأة في تحديد أولويات سياستهم الخارجية، وأكثر تطلعا لتحقيق الهيمنة عبر التدخل المباشر في شؤون الغير بحجة نشر الديمقراطية. ولذا لو حدث ووصل رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض في أعقاب الإدارة الحالية، فإنه ربما يجد في "حكم العسكر" ذريعة للتدخل في الشأن المصري والوصول به إلى ما يشبه النموذج العراقي أو الأفغاني. من ناحية ثانية فإن الشرط الذي تقبل على أساسه الإدارة الأمريكية بوصول نظام ذي خلفية عسكرية إلى الحكم؛ أي التعاون في مكافحة الإرهاب هو شرط يؤدي إلى مشاكل داخلية كبرى. فكما تنتهي سياسات الإصلاح الهيكلي المفروض خارجيا باندلاع الإضرابات الشعبية الواسعة، تؤدي جهود محاربة الإرهاب بالوكالة عادة إلى انتشار العنف وخروجه عن حدود السيطرة.من ناحية ثالثة فإنه لا يوجد ما يضمن استمرار واشنطن في دعم النظام العسكري المحتمل إذا ما جوبه بأعمال احتجاج جماهيري واسعة، فقرار واشنطن التضحية بحلفائها التقليديين في مقابل الحفاظ على الاستقرار أصبح قرارا معتادا، وسوف يدفع الأمريكيون بحلفائهم الليبراليين إلى صدارة المشهد السياسي عند أول بادرة اختلال لأركان حكم النظام ذى الخلفية العسكرية. ولعل هذا ما يفسر إعطاءهم الضوء الأخضر لعدد من "أصدقائهم" لانتقاد العسكر والقيام بما يشبه المعارضة لنمط حكمهم الذي قد لا يطول.لمزيد من التفاصيل حول الدور الأمريكي يراجع كتاب جيمس بتراس: "الثورة العربية والثورة المضادة أمريكية الصنع".