15 سبتمبر 2025

تسجيل

صناعة الانقسام

26 فبراير 2014

تاريخ صناعة الانقسامات في عالمنا الإسلامي تاريخ طويل، وقد بدأ بشكل مؤثر مع انتشار المنظمات التبشيرية في ربوع الدولة العثمانية، حيث عملت هذه على إذكاء "الأفكار القومية" بغرض تفتيت دولة الخلافة، لكي يسهل اقتناص ولاياتها واحدة تلو الأخرى بعد ذلك. فالأفكار القومية لا تفعل أكثر من أنها تنمي في الأفراد نوعا من الوعي بوجود الاختلافات بينهم وبين الآخرين، وعندما يختمر هذا الوعي في أذهان معتنقيها يتبرمون من وجودهم وسط من لا يشاركونهم نفس خصائصهم، ومن ثم يترجمون هذا التبرم في شكل دعاوى بالانفصال.وقد نجحت جهود المبشرين نجاحا كبيرا وانتشرت الأفكار القومية وسط رعايا الدولة الأم، وبدأت تظهر المطالب بالانفصال، فتحرك العرب والأرمن والأكراد واليهود وغيرهم، كل يطالب بنصيبه من جسد الخلافة المتسع، وبالفعل تحقق الانفصال لكثير منهم، وصارت الخلافة أثرا بعد عين، بل أصبح مجرد ذكر اسمها يثير مشاعر التوجس لدى أنصار الدولة القومية، وأصبح نموذج الدولة القومية هو النموذج الوحيد المقبول، رغم أنه في حالة العرب لم يتحقق فعليا على الأرض، فقد ظل العرب مبعثرين بين دول قطرية ضيقة، وظلت القومية بالنسبة لهم شعارا أكثر منها برنامجا قابلا للتنفيذ، ويرجع ذلك في قدر كبير منه إلى أن نموذج "القومية العربية" قد ولد من رحم أفكار تجزيئية تؤكد على المختلف على حساب المشترك، وتجعل الجزء في مواجهة مع الكل. وإذا كانت الدول الاستعمارية عبر ذراعها التبشيرية قد لجأت إلى قاعدة "فرق تسد" عند محاولتها تقسيم جسد دولة الخلافة، على أساس من القومية، فإن الدولة العثمانية نفسها قد لجأت إلى تكتيك مشابه وهي بصدد التوسع خارج حدودها الأولى في آسيا الصغرى، ويحكي لنا المؤرخون كيف أن الأتراك العثمانيين عندما دخلوا مصر ابتدعوا فكرة لتقسيم المصريين على أساس من اللون إلى فريقين؛ الفريق الأحمر ويمثله المماليك القريبون من المصريين، في مواجهة الفريق الأبيض ويمثله المماليك القريبون من الأتراك، وللغرابة الشديدة طاوعهم الناس وتجاوبوا معهم، وانقسموا إلى حزبين عرفوا باسم "الفقارية والقاسمية"، وأصبحت المناوشات المسلحة بين اللونين حديث الناس جميعا، ولم يعد أحد مشغولاً بالحديث عن الغزو العثماني، ولا عن الشأن السياسي، بقدر ما هم مشغولون بالحديث عن الطرف الذي ينجح في إيقاع أكبر قدر من الخسائر بخصمه. وسواء كان الانقسام من تدبير طرف خارجي أو من طرف داخلي فإن صناعته لها خصائصها التي لا تتغير ومنها أن الطرف المستفيد من الانقسام عادة ما يقوم بتقريب أحد الأطراف المتنافسة إليه، سواء على وجه الحقيقة، أو على وجه التظاهر. فمن خلال هذا التقريب تزداد سخونة الانقسام، وتستعر الخصومة بين الطرف المقرب والطرف المستبعد، كما قد يؤدي هذا الأسلوب إلى إغراء الطرف المستبعد بأن يسعى إلى التماس ود الطرف القوي متى لاحت له الفرصة لذلك، فإذا ما أحجم تتم شيطنته وصناعة حالة من الكراهية ضده.وقد يتطور الانقسام المعنوي في النفوس إلى انفصال فعلي على الأرض، وهنا تكمن الخطورة العظمى له. وأذكر أنه قبل سنوات جمعني نقاش مع عدد من أصدقائي من سوداني المهجر حول موضوع انقسام السودان، وكنت وقتها أستشعر ألما حقيقيا من فكرة أن السودان الكبير الذي كنا نفتخر بضخامته عندما نرسم حدوده ضمن خريطة الوطن العربي في أيام الطفولة يمكن أن ينقسم إلى شمال وجنوب.ما أدهشني أن الكثير من هؤلاء الأصدقاء كان يبدي اقتناعه بفكرة الانفصال، ولا يستشعر نفس الألم الذي كنت أستشعره، لماذا؟ لأنهم — أي الشماليين— شعب والجنوبيين شعب، أو على حد وصف صديقي السوداني: "هم ليسوا مثلنا، ومن الأفضل لهم أن ينفصلوا عنا وأن ننفصل عنهم". وهكذا أصبح الانقسام أمرا طبيعيا ومرحبا به، أو بعبارة أخرى لم يعد الانقسام مشكلة ولكنه تحول إلى حل، رغم أنه حل يتضمن تمزيق للوطن ليس على المستوى المعنوي فقط ولكن على المستوى المادي أيضاً.هذه النتيجة هي أخطر ما يمكن أن تؤدي إليه سيناريوهات صناعة الانقسام الذي تعيشه مصر الآن، والتي يتردد في إعلامها نفس المقولة السابقة، "نحن شعب وهم شعب". وتترجم على أرض الواقع عبر إجراءات مثل إقصاء المخالفين، وممارسة كافة أنواع الظلم بحقهم على كافة المستويات، ومباركة الإجراءات القمعية التي توقع عليهم، وملاحقتهم وفقا لاتهامات مسيسة، وتصفيتهم بدم بارد، وكأن من ينتهجون هذا النهج يريدون أن يدفعوا بالبلاد إلى حالة انقسام فعلي على الأرض، وليس فقط صناعة حالة من الفرقة اللازمة لترسيخ استبدادهم.