14 سبتمبر 2025
تسجيلمثير ذاك الجدال والنقاش بين تابعين ومتبوعين. ليس في ماض سحيق ولى، ولا حاضر نعيشه، ولا حتى مستقبل آت! بل سيكون ذاك الجدال بعد انتهاء الزمن، أو بلغتنا الحاضرة، بعد انتهاء صلاحية الحياة الدنيا (يوم تُبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار). سيقع نقاش ساخن وتلاوم وتبادل اتهامات، بين تابعين ومتبوعين، في زمن قادم لا محالة، والذي كثيراً ما يحذرنا القرآن من مشاهد ووقائع ذاك الزمن، بل ويزيد في تأكيد تحذيره من أن نكون ضمن أي من الفريقين اللذين ستكون قصتهما محور حديث اليوم، باعتبار أن كل فريق لن يكون بأفضل حال من الآخر، والانضمام إلى أي منهما هو الخسارة ذاتها. إنهما يومئذ في الغم والندم والبلاء والشقاء سواء. فريق واحد ومصير مشترك، بغض النظر عن مستوى أفراد كل فريق. فمن منهما، وما قصتهما؟ لاحظ معي، قبل التعرف على الفريقين، عظمة القرآن وهو يصف لك مشاهد مستقبلية ستقع ولا ريب في ذلك، لكنها لن تكون في أي لحظة من لحظات مستقبل هذه الحياة الدنيا، بل تلك التي تليها والمتعارف عليها بالحياة الآخرة أو الخالدة. تأمل معي مثلاً أحد تلكم المشاهد، وهو مشهد آل فرعون حين يأمر الله عز وجل ملائكته أن (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب). والآل ها هنا - عائلة فرعون مصر، زمن النبي موسى عليه السلام. ويدخل ضمن الآل كذلك أقاربه وحاشيته وبطانته والمنتفعون من ورائه والدائرون في فلكه. ذلكم جميعاً يشكلون الفريق الأول. لاحظ في الآية الكريمة بعد أن بان مصير آل فرعون، أنه جاءت الآية التالية لتتحدث عن صامتين أو الذين غضوا الطرف عن أفعال وتصرفات وسلوكيات الظالمين، وهم الفريق الثاني هاهنا، الذين اختاروا السير في مواكب الظلمة رغبة أو رهبة، لتبين لك الآية مشهد الجدال والنقاش (فيقول الضعـفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعا. فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار)؟. بالطبع يومئذ لن يغني أحدٌ أحداً. كل لاه مع نفسه أو مصيبته. نعم كنتم معنا - هكذا يقول الظالمون من الفراعنة ومن سار على دربهم - تصفقون لنا وتهتفون بأسمائنا، وكان بإمكانكم الرفض، على رغم أنه كان سيجلب لكم الرفض، قهراً وعذاباً دنيوياً، لكنه كان أهون من هذا الذي أنتم عليه. هكذا لسان حال الظلمة وهم يدافعون عن أنفسهم ضد أتباعهم يومئذ. يحدث مشهد ثان في موقع آخر في ذلكم الزمن، وسط الحشود المحتشرة مشابه للمشهد الأول. نقاش وجدال بين مجرمين أو ظلمة وفجّار، مع أتباع لهم في الحياة الدنيا. فريق المتابعين يريد اثبات ذنب الفريق الأول فيما هم عليه من حال، يقولون: (لولا أنتم لكنا مؤمنين) فيأتيهم الرد سريعاً حازماً من الفريق الأول: (أنحن صددناكم عن الهدى بعـد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين). أجرمتم في حق أنفسكم وأهليكم - هكذا يقول الظالمون لأتباعهم - فقد رأيتم زينة الحياة الدنيا بأيدينا، فتاقت نفوسكم إليها، وآثرتم ما عندنا على ما عند الله، الذي هو خير وأبقى. نحن، كما يقول ابن كثير في تفسيره: "ما فعلنا بكم أكثر من أنّا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بهم الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك. وهكذا يدخل الطرفان في جدال لا طائل من ورائه. فقد فات أوان العمل والتفكر والتدبر، وحان أوان الجزاء والحساب، وهما بالطبع يومئذ في خسران مبين". كرامة الاختيار والحرية الفريق الثاني أو فريق الأتباع، كانت فرصتهم أكبر في انقاذ أنفسهم في الحياة الدنيا، لكن فساد قلوبهم وحب الدنيا أعماهم عن اختيار طريق الإنقاذ، فأجرموا في حق أنفسهم، وساروا على درب الهوى ودرب الفجّار. لقد منحهم الله - كما يقول سيد قطب في ظلاله -: "كرامة الإنسانية، وكرامة التبعة الفردية، وكرامة الاختيار والحرية. ولكنهم هم تنازلوا عن هذا جميعاً. تنازلوا وانساقوا وراء الكبراء والطغاة والملأ والحاشية. لم يقولوا لهم: لا، بل لم يفكروا أن يقولوها. بل لم يفكروا أن يتدبروا ما يقولونه لهم وما يقودونهم إليه من ضلال.. إنا كنا لكم تبعا. وما كان تنازلهم عما وهبهم الله واتباعهم الكبراء ليكون شفيعاً لهم عند الله. فهم في النار. ساقهم إليها قادتهم كما كانوا يسوقونهم في الحياة سوق الشياه. ثم ها هم أولاء يسألون كبراءهم: فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار". ذاك التلاوم والشجار اللفظي بين التابعين والمتبوعين، هو مشهد واحد من مشاهد عذاب الآخرة المتنوعة - أعاذنا الله وإياكم منها - يقصه القرآن للتأمل والتدبر، من أجل بذل الجهد المناسب في وضع السيناريوهات المناسبة لتجنب أن يكون أحدنا ضمن المشهد، عضواً في أحد الفريقين، باعتبار أن كليهما خاسران. إن كان ما سبق جزءاً من عذاب الآخرة يتجرعه الفريق الأول أو فريق الظالمين المتجبرين، فهل يعني ذلك خلو حياتهم الدنيا من أي نوع من العذاب أو العقاب الدنيوي، كنوع من التحذير الإلهي قبل قيام قيامتهم؟ وماذا عن الذين يتبعون أولئك الظالمين؟ المؤيدين لأفعالهم أو المسبحين بحمدهم أو من يغضون الطرف عن مساوئهم؟. لا شك أن أفعال الفريقين تلك تجلب نقمة الله في الدنيا قبل الآخرة، بصورة وأخرى. إذ ليس شرطاً أن يكون العذاب حين ينزل على الناس، قاصماً مهلكاً كعذابات الأقوام السابقة. يكفي أن يرفع الله الأمن والأمان عن البلد الذي يعيش فيه هؤلاء وهؤلاء، ليعيش الناس عذاباً معنوياً أو نفسياً بالغ الأثر، أو أن يأتي العذاب على شكل غلاء فاحش عميق في تكاليف المعيشة والحياة اليومية، أو يكون على صورة مزيد من الإهانات والاستخفافات يقوم به الحاكم الظالم تجاههم، وغيرها من عذابات قبل الآخرة. ما المطلوب؟ حين تجد مشهداً في القرآن موصوفاً حول ما في الجنة مثلاً، أو في النار والعياذ بالله، فإنما هو في الأساس رسالة لك كقارئ لتلك الآيات، للتأمل والتدبر، وأنها فعلاً مشاهد حقيقية ستقع لا ريب فيها مطلقاً. مشاهد مستقبلية واقعة لا محالة، ولكن تتم التحضيرات لها في هذه الحياة الدنيا. تحضيرات إما للسعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي. هذا القرار أنت تتخذه يا قارئ القرآن، فتختار التحضيرات المناسبة للمشاهد المستقبلية التي ترغب أن تراها، ويراها كل حضور القيامة من إنس وجن وملائكة.. فماذا أنت فاعله؟. [email protected]