09 أكتوبر 2025
تسجيلطالب في الاعدادية يعرف بنفسه في حسابه على الـ "الفيس بوك" بأنه "مسلم سني" في بلد مشرقي يشكل السنة فيه أكثر من 99%. بنت عمرها ٥ سنوات في بلد خليجي تعود إلى أمها من روضة الأطفال تبكي وتشتكي بأن زملاءها في الروضة يقاطعونها ولا يلعبون معها لأنهم يقولون إنها "شيعية" وتسأل أمها عن معنى ذلك! على مستوى أعلى يتنافس تكفيريون شوهوا الثورة السورية وحرفوها عن مسارها مع حزب الله في قتل آلاف من السوريين الأحياء دفاعا عن مرقد للأموات لا ترقد أساسا فيه السيدة زينب. وخلفية المشهد المأساوي للتعبيرات التي لا يمكن حصرها هو التخندق في الهوية الطائفية إذ تصبح المميز الأهم في فرز تكتلات المجتمعات مذرية التعايش العفوي الذي ساد قرونا وعقودا طويلة. في البلدان الخليطة طائفيا مثل العراق ولبنان وبعض دول الخليج يتحدث كبار السن بألم ممض عن سنوات وعقود عاشوها ولم يكونوا يعرفون من هو سني ومن هو شيعي. حيث يتزاوج الناس ويتعاملون فيما بينهم عفويا وطبيعيا من دون الفرز الهوياتي. قبل أن يضرب المنطقة هوج التيارات الإسلامية (السنية والشيعية) وخطاباتها التي تزعم التعايش والتسامح وكل الكلام الفارغ. كان الناس يعيشون في تعايش وتسامح عاديين. وكان الدين بوجهه الأليف وتفسيراته المعتدلة يُمارس في المجتمعات من منطلق العلاقة الفردية مع الخالق والحب مع المخلوق. في الحقبة "الإسلاموية" المظلمة صار الدين عنفاً ودما وسياسة قاتلة وجماعية. وانتشرت التفسيرات الإقصائية والتكفيرية المُستنبطة في المناخ العام وسممته. بل تسربت إلى التعليم المدرسي والمساقات التي تُدرس للأجيال الجديدة. صار مسيحيو الوطن "نصارى صليبيون" وصار شيعته "صفويين كفرة". وانخرط الجميع في حفلة انتحار جماعي يكاد لا يُستثنى منها وطن أو مجتمع. في تحليل جذور ما وصلنا إليه نعرف أنها تعود إلى التنافس والاقتتال المدمر بين السلفية المتطرفة والخمينية المتطرفة الذي استعر منذ قيام الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات وردود الفعل السلفية التي استفزتها. انخرط الطرفان في حرب خطابات مدوية حول من يمثل الإسلام والمسلمين. ووظفت في تلك الحرب كل أساليب الدعاية والهجوم والإعلام. واستنفر كل الماضي البائس وثاراته ودمويته. تم ترحيل المجتمعات إلى قرون سحيقة وعوض أن نعيش في القرن الحادي والعشرين والعالم يصل إلى المريخ وصلنا بسرعة الضوء إلى معاوية وعلي وصفين وكربلاء. وأقمنا هناك. ونبشنا كل الدماء التي جفت وأعدنا إليها بعبقرية بالغة ومحطمة لونها الأحمر وحرارتها فصارت كأنها سالت اليوم. وبعثنا فيها حياة دائمة. صارت دماء حارة لا تجف أبدا. وكل يوم تلطخ وجهنا. وتملأ أفواهنا وتخنقنا. وحيث لا يوجد هذا الانقسام السني ـ الشيعي تتحول الطاقة التدميرية إلى المسيحيين كما في مصر حيث في حقبة ما بعد سقوط مرسي وحدها تعرضت أكثر من أربعين كنيسة للحرق والتدمير إضافة إلى عشرات المحلات والصيدليات التي يملكها مسيحيون. سيقول قائل إن هناك شبهات كبيرة حول تلك الاعتداءات وحول تورط بعض أجهزة الأمن فيها للتحريض على التيار الإسلامي وسوى ذلك. وبفرض وجود ذلك فإنه لا ينطبق على كل الحالات ولا ينفي كارثية التحريض الطائفي الكريه والتسمم الجماعي به. والذي لولا وجوده لما استطاعت اية اجهزة أو أطراف "مشبوهة" القيام بتلك الاعتداءات ونسبها إلى غيرها. نحن اليوم نقف على حافة هاوية إن تركنا أنفسنا نهوي فيها فإننا سنحتاج عقود طويلة كي نخرج منها. كما يقول لنا درس التاريخ المرير. إنها هاوية الطائفية حيث يرقد في قاعها العفن والموت الجماعي وحيث لا أحد ينتصر. غول الطائفية انفلت في بلادنا بشكل لم يسبق له مثيل يأكل الأخضر واليابس. ويطارد الجميع ويدفعهم إلى تلك الهاوية. يحشدهم جماعات ومجتمعات ويقودهم منقادين ومنومين إلى حتفهم الكلي. يجب أن ينتابنا رعب جماعي من هذا الغول ونصده بكل الجهد والعزيمة لأن المعركة معه معركة حياة أو موت. في الطائفية وحروبها ليس هناك منتصر. بل الكل يخسر والكل يُدمى بالهزيمة. الطوائف والأديان كما القوميات منزرعة في تكوينات البشر وفي الأرض والمجتمعات ولا يمكن خلعها. لن تكون هناك طائفة أو قومية غالبة ظافرة بالمطلق حتى لو ظنت أنها هزمت الآخرين. نار الطائفية تظل تغلي تحت الرماد. والحل الوحيد لإطفائها هو الإقرار الجماعي بالتعايش والاحترام المتبادل. وليس مواصلة الحرب والاتهام والرغبة البدائية بالإبادة والتطهير. إطار التعايش الذي يمكن أن تتصالح فيه الطوائف والأديان والعصبيات المختلفة من دون اصطراع تبادلي التدمير هو إعلاء الأولوية للانتماء إلى الوطن على الانتماءات الأخرى وعلى قاعدة المواطنة والمساواة التامة. الأفراد في كل وطن من الأوطان هم مواطنون أتباع للوطن أولا. ثم لأية انتماءات ثانوية ثانياً. هم مصريون أولا. ثم يأتي بعد ذلك أي ولاء آخر. إسلامي أو قبطي. وهم عراقيون ولبنانيون وبحرينيون قبل أن يكونوا سنة أو شيعة. وهكذا. هذا ما يجب أن يتوافق عليه الجميع كفكرة مؤسسة للجماعة الوطنية التي ينتمون إليها. وتكون حجر الزاوية في الدستور والقوانين. وهي ما يجب أن يؤسس لكل ما يتعلمه طلاب المدارس وتمارسه المؤسسات الرسمية أولا ويتبناه المجتمع المدني والديني ثانيا. عندما تترسخ فكرة المواطنة وفكرة المجتمع والدولة المدنية لا الدينية نواجه جماعيا غول الطائفية ونبدأ في الهجوم المعاكس. من دون ذلك فإننا سننخرط في دوامات الصراعات الطائفية ونستدعي أحقاد الماضي لتكون هي العتاد المسموم في حياتنا السياسة والاجتماعية والثقافية. ومن دون ذلك نظل ضحايا طوعيين للغرائز البدائية وبكائيات القرون الخالية وتمتص الثارات التافهة لأموات قدامى كل ما هو اخضر وحي في حاضرنا. من دون ذلك سوف نغلق بوابات المستقبل في وجه الأجيال القادمة. وندفعهم للعيش في الماضي. شباب في عمر الورد لكن كل الذي يفكرون فيه هو الرحيل بعيدا في ماض سحيق للالتحاق بجيش خيالي لعلي أو جيش خيالي لمعاوية. وإعلان الحرب الأبدية التي لا تموت ضد الآخر. حيث نتيجة الحرب وللطرفين معا هي الموت المحقق والهزيمة المحققة.