12 سبتمبر 2025

تسجيل

سياسة الخداع وتسويق الحروب

25 أكتوبر 2013

صدر قبل سنوات كتاب "ماذا حدث داخل البيت الأبيض" لمؤلفه المتحدث السابق باسم البيت الأبيض الأمريكي سكوت ماكليلان والذي يُعتبر شهادة من داخل كواليس السياسة الأمريكية، تكشف تفاصيل صناعة القرار السياسي وتفاصيل التضليل والتعتيم والتلاعب بالمعطيات والمعلومات للسيطرة على الرأي العام المحلي والدولي. سياسة الخداع كما يسميها ماكليلان سيطرت وهيمنت على القرار السياسي الأمريكي في مرحلة، تعتبر من أهم وأخطر المراحل في السياسة الخارجية الأمريكية على الإطلاق. إذ إن هذه الحقبة شهدت تحولات جذرية في العلاقات الدولية حيث انفردت الولايات المتحدة الأمريكية بإدارة مصير العالم وتطويع منظمة الأمم المتحدة لقبول قرارات لم تكن سليمة على الإطلاق وقرارات كانت تداعياتها وانعكاساتها خطيرة جدا على عدد من الدول ومن شعوب منطقة الشرق الأوسط. الكتاب يشير إلى تضارب في القول والفعل لصحفي وناطق رسمي للبيت الأبيض كان من واجبه تقديم الحقيقة والاستقالة من الوهلة الأولى والانحياز لمصلحة الشعب الأمريكي وللحقيقة بدلا من الاشتراك في جريمة الكذب والخداع والتلاعب بالعقول. لكن يبدو في واقع الأمر أن سكوت ماكليلان انحاز للمؤسسة التي تعطيه راتبا نهاية كل شهر وهذا ما يعني أن كتابه وحتى ولو يعتبر شهادة من الداخل وجرأة في تقديم الحقيقة إلا أنه كتاب جاء متأخرا ليعكس أن مصلحة السلطة هي فوق كل اعتبار في عالم لا يؤمن بالرأي العام بل يؤمن بالتلاعب بالعقول لاستعمالها في تشريع قراراته وتصرفاته. فالجميع تواطأ واتفق على التضليل والتزييف والكذب لتسويق الحرب والتأثير على الرأي العام الأمريكي للمصادقة على الحرب، بل الإيمان بضرورة خوضها للدفاع عن مصالح أمريكا وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط. سكوت ماكليلان، أو محامي الشيطان، مؤلف كتاب "ماذا حدث في البيت الأبيض"، صال وجال في البيت الأبيض ودافع بشراسة عن سياسات بوش وإدارته لشؤون أمريكا والعالم ومن أهمها قرار الحرب على العراق وبعد كل الضرر الذي أحدثه هذا القرار للشعب الأمريكي ولدول وشعوب العالم، يأتينا بهذا الكتاب وبهذه الحقائق. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو لماذا لم يقدم ماكليلان استقالته من منصبه عندما لاحظ سياسة الخداع والتضليل والتعتيم والتلاعب بالمعلومات من أجل تسويق حرب لا حاجة للشعب الأمريكي بها. ولماذا وافق ماكليلان كل هذه الفترة على القيام بالدفاع عن الشيطان وعن سياسات يرفضها جملة وتفصيلا ولا يؤمن بها. فالتاريخ يكشف دائما عن الحقائق وعن هؤلاء الذين يضعون مصلحة حفنة من بارونات السياسة والمال فوق مصلحة الأمة والبشرية. فالغاية تبرر الوسيلة وكل الطرق والوسائل مشروعة للوصول إلى الهدف حتى ولو كان ذلك على حساب القيم والأخلاق. تتحدد إشكالية الكتاب في أن قرار الحرب في الدستور والأعراف الأمريكية لا يتم إلا إذا تطلبت الظروف ذلك، وإلا إذا كانت الحرب ضرورية ومبررة ولها أسبابها وحججها. الظروف الموضوعية التي كانت سائدة أثناء مرحلة ما قبل الحرب لم تكن مؤهلة وكافية لشن الحرب على العراق. لكن صقور البيت الأبيض وعلى رأسهم ديك تشيني استطاعوا من خلال استخدام "ثقافة الخداع" أن يضللوا الرأي العام الأمريكي والعالمي والاقتناع بقبول قرار الحرب والموافقة عليه. فالبيت الأبيض لجأ إلى كل الطرق والوسائل من دعاية وأكاذيب وأساطير ومن تضخيم خطر القاعدة وأسلحة الدمار الشامل وغيرها لتبرير الحرب وجعلها حتمية لإنقاذ أمريكا والعالم من خطر داهم من شأنه أن يعصف بالعالم بأسره ويفتك بالبشرية جمعاء. فتسويق الحرب على العراق تم من خلال أكاذيب وحملات ترويجية تسويقية دعائية تقوم على معلومات خاطئة وردت من المخابرات المركزية الأمريكية التي كانت تحصل على معظم معلوماتها من المعارضة العراقية في الخارج التي كانت بدورها تحلل الواقع وتقدم المعلومات بناء على العواطف والأمنيات وليس على ما هو موجود في أرض الواقع. ويرى ماكليلان أن موضوع الحرب على العراق كان المفروض أن يتم من خلال المناقشات المفتوحة ومشاركة الفضاء العام خاصة وسائل الإعلام والنخبة المثقفة للوصول إلى الحقيقة ومن ثمة مساندة قرار الحرب أو معارضته. مع الأسف الشديد قرار الحرب تم في جو من التواطؤ الكبير بين وسائل الإعلام والبيت الأبيض، حيث استطاعت إدارة بوش تمرير خطابها وأكاذيبها أمام أعين ومسامع الإعلام الأمريكي، الذي كان من المفروض أن يكون كلب الحراسة ومراقب السلطة والجهة التي تستقصي الحقائق وتتأكد من صحة القرارات التي تتخذها السلطة في المجتمع. فالإعلام الأمريكي الذي يدعي البحث عن الحقيقة والكشف عنها وتوفير منبرا حرا للرأي العام ليناقش القضايا المصيرية في المجتمع وإبداء رأيه فيها والمساهمة في صناعة القرار، أصبح بدلا من كل هذا طرفا في معادلة الخداع والتزييف والتضليل وإخفاء الحقائق. وبهذا التلاعب الصارخ الذي يتنافى ويتناقض جملة وتفصيلا مع أسس ومبادئ الديمقراطية، استطاعت إدارة بوش الإعلان عن حرب غير مشروعة وغير مبررة والزج بعشرات بل مئات الآلاف من الشباب الأمريكي في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. يتساءل ماكليلان عمن هو المسؤول فيما حدث في البيت الأبيض وهنا يشير الكاتب بأصابع الاتهام إلى جهات عديدة من أهمها بطبيعة الحال إدارة بوش والحزبين الديمقراطي والجمهوري وجماعات الضغط والقائمين على الإعلام حيث إن الجميع لم يقم بدوره كما ينبغي بل انخدع وأصبح طرفا في نشر ثقافة الخداع والتسليم بكل ما يُنشر ويُبث من دون أدنى مساءلة أو استقصاء أو تشكيك. وهذا ما ساعد على نشر الكثير من الأكاذيب والتلاعب بالكثير من المعطيات للوصول إلى هدف واحد هو تسويق الحرب للجميع خاصة الرأي العام الأمريكي والدولي. هذه الظاهرة جعلت الكثير من المختصين يتساءلون عن دور الفضاء العام والنخب المثقفة ووسائل الإعلام الأمريكية في مواجهة سلطة المال والسياسة في المجتمع. فالواقع يؤكد أن الجميع-أحزاب سياسية، معارضة، جماعات ضغط، مؤسسات إعلامية، الفضاء العام، الرأي العام - الكل استسلم لـ "الإستبليشمنات" Establishment وللوضع الراهن Status Quo، والنتيجة في نهاية المطاف هي انهزام الحقيقة والحكم الراشد والقرار السليم أمام التضليل والتعتيم والتلاعب والخداع. الخاسر الكبير كان بطبيعة الحال الشعب الأمريكي ودافعي الضرائب والأمن وألمان والاستقرار في العالم.