16 سبتمبر 2025

تسجيل

الإرهاب والحصاد الهزيل للثورة التونسية

25 أكتوبر 2013

أحيا الشعب التونسي يوم الأربعاء 23 أكتوبر 2013 الذكرى الثانية لانتخاب المجلس الوطني التأسيسي، وسط صورة درامية تعكس حالة الجدل والخلاف والانقسام الكبير في المشهد السياسي التونسي، بين المعارضة المدنية الليبرالية واليسارية والقومية التي تظاهر أنصارها في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية، لدفع الحكومة التي تقودها حركة "النهضة" الإسلامية إلى الاستقالة، وذلك تزامناً مع اكتمال سنتين على أول انتخابات تأسيسية (البرلمان) بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت الرئيس السابق زين العابدين بن علي، من جهة. وبين حركة النهضة الإسلامية الحاكمة، المنتمية لجماعة الإخوان المسلمين، وحلفائها، من جهة أخرى. وعمّق من حالة الانقسام عدم انطلاق الحوار الوطني في تونس، في موعده المحدد الأربعاء23 أكتوبر الجاري، حيث أصرّت مختلف الأطراف على مطالبها ومواقفها المندرجة في سياق فهمها الخاص بتنفيذ آليات المبادرة التي أطلقتها "الرباعية" الراعية للحوار في 17 سبتمبر 2013، في وقت اندلعت اشتباكات لم تكن مفاجئة لكل المتابعين لقضية انتشار الإرهاب في عموم البلاد التونسية، بين القوات الأمنية و "مجموعة إرهابية" تنتمي إلى تنظيم "أنصار الشريعة" في منطقة سيدي علي بن عون من ولاية سيدي بوزيد،وتحديدا في منطقة الونايسية،حيث استشهد 6 من عناصر أعوان الحرس الوطني فيما سقط 6 جرحى آخرون يتلقون العلاج حاليا في المستشفى الجهوي بسيدي بوزيد. وتُعتبر منطقة "سيدي علي بن عون" من أهم معاقل التيار "السلفي الجهادي" في تونس، ويقطن فيها الخطيب الإدريسي، الزعيم الروحي لـ "الجهاديين" التونسيين. وحسب المعطيات الأولية المتوافرة من مصادر أمنية تونسية،فإن معلومات وردت إلى أعوان الأمن بالجهة مفادها أن "عناصر مجموعة إرهابية مسلحة تتحصن به"، تخطط للانتقام لعملية قبلاط متواجدة في أحد منازل الجهة،فتحولت العناصر الأمنية لتقصي حقيقة المعلومة، لكن المجموعة الإرهابية باغتتها بالرصاص مما أسفر عن استشهاد 6 بينهم نقيب وجرح 6 آخرون فيما قتل عنصران من المجموعة الإرهابية وجرح عدد آخر لم يتم تحديد عددهم.وتشبه هذه العملية الإرهابية إلى حد كبير ما حدث يوم الخميس 17 أكتوبر الجاري في منطقة قبلاط في ولاية باجة، حيث سقط قتيلان من الحرس الوطني في اشتباكات مع مجموعة مسلحة. لا شك أن تزامن سلسلة العمليات الإرهابية الأخيرة،يدق جرس الإنذار للأطراف السياسية على مدى تغلغل الإرهاب في البلاد التونسية، حيث إن هناك مخططاً واضحاً من طرف تنظيم "أنصار الشريعة" المتعاون مع عصابات التهريب، يستهدف المقرات والدوريات الأمنية والديوانية الحدودية بغاية كسر "الحصار" عن المجموعات الإرهابية المتحصنة بالجبال وعمليات التهريب التي تخرّب الاقتصاد الوطني. فهذا التحالف الموضوعي بين تنظيم "أنصار الشريعة"و عصابات التهريب، فرضته "مصالح مشتركة" بين الطرفين، انطلقت منذ أكثر من العام، حيث لعبت عصابات التهريب دوراً فاعلاً في "تسهيل" دخول الجماعات الإرهابية إلى البلاد التونسية وتمركزها بين عدد من الجبال بالقصرين والكاف وجندوبة بصفة خاصة. كما إن عصابات التهريب تتلقى أموالا ضخمة من الجماعات الإرهابية مقابل توفير "المؤونة" لها لدعم تحصّنها بالجبال.وكانت الأجهزة الأمنية تفطنت في الفترة الأخيرة إلى العلاقة العضوية بين تنظيم" أنصار الشريعة" وعصابات التهريب المعروفة باسم "الكونترا"،حيث تتستر هذه الأخيرة في المجموعات الإرهابية عكس ما كان سائدا قبل أعوام. في قراءة لحصاد السنتين الماضيتين منذ إنجاز أول انتخابات ديمقراطية في الساحة التونسية يوم 23 أكتوبر 2011، يلمس المتابع للأحداث السياسية في هذا البلد العربي مفجر ربيع الثورات العربية منذ عامين، أن الشعب المدفوع بالغيرة على تونس التي نُهبت تحت براثن الفساد والمحسوبية من قبل النظام الديكتاتوري السابق، وتعاطفا مع الأبناء الذين امتهنت كرامتهم في الداخل والخارج، بحثا عن سبل الحياة الكريمة، في حين استأثر رعايا السلطة بكل المزايا والفرص الكبيرة، هذا الشعب لم يحقق أي من أهدافه في مجال تحقيق بناء الدولة الديمقراطية التعددية، والعدالة الاجتماعية، والحرية، والعزة، والكرامة، بعد عقود من الهوان والاستبداد. ومنذ انتخابات 23 أكتوبر 2012، ساد الانقسام والصراع السياسي في المشهد السياسي التونسي،بين سلطة الائتلاف الحاكم الذي تتزعمه حركة "النهضة" على مجمل العملية السياسية،ومحاولتها المحمومة من أجل الهيمنة على مفاصل الدولة التونسية، وبين المعارضة الليبرالية والعلمانية التي تناضل من أجل إنجاز أهداف الثورة التونسية. وفي تلك الأثناء شهدت الساحة السياسية بروز تنظيم "أنصار الشريعة " الإرهابي المتورط في عمليات الاغتيال التي طالت كل من الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وصنف بعدها تنظيما إرهابيا، وواصل عملياته الإرهابية حتى بعد ذلك التصنيف وكانت آخرها منذ أيام في قبلاط بمحافظة باجة، وأمس الأربعاء في ولاية سيدي بوزيد، في اليوم الذي كان مخصصاً لانطلاق الحوار الوطني.ورغم تشكل حكومة علي العريض على أثر استقالة حكومة حمادي الجبالي في 19 فبراير 2013، فإن هذه الحكومة استمرت في نفس النهج السابق وأعادت إنتاج الأزمة السياسية، لاسيَّما بعد استشهاد المعرض محمد البراهمي في 25يوليو 2013. فمن الناحية السياسية، كان المأمول من حكم النهضة أن يسعي سريعا نحو إنجاز الدستور الديمقراطي التوافقي، وإدارة عملية التحول الديمقراطي كجزء من عملية إعادة بناء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، في إطار من الوفاق الوطني والرضا الشعبي المستند إلى حكم القانون، أي بناء الدولة الديمقراطية الحديثة على نحو ما فعلت الدول المتحولة في أوروبا الشرقية، وتحقيق النهضة الاقتصادية، علي نحو ما فعلت الدول الناهضة في جنوب شرق آسيا، الأمر الذي يؤدى إلى تحسين الأحوال المعيشية للشعب التونسي، وتخفيف وطأة الفقر، وتحقيق العدالة الاجتماعية. على نقيض كل ما كان مأمولاً من جانب حركة النهضة أن تستجيب -ولو نسبيا- لتحقيق أهداف الثورة التونسية، كشفت لنا التطورات السياسية خلال السنتين الماضيتين، أن حركة النهضة متحالفة مع المجموعات الإرهابية، وعبدت لها الطريق لكي يكون لها موقع قدم على الأرض التونسية، واستخدمتها في نطاق حربها على المعارضة اليسارية والليبرالية والقومية. ومما زاد من حدة هذه الحالة الانفلات الأمني الذي تمر به تونس، وتغلغل الإرهاب في المدن والأرياف والجبال، لاسيَّما في المحافظات المهمشة والفقيرة، وفي أحزمة الفقر بالعاصمة، فكانت النتيجة الحتمية أن فشلت كل مبادرات الحوار الوطني للخروج من الأزمة السياسية التي تعيشها تونس، بسبب إصرار صقور حركة النهضة على عدم قبول استقالة الحكومة، وعدم ثقتهم في جدوى الحوار الوطني، واستخدامهم للمجموعات الإرهابية للقيام بعمليات إرهابية، الهدف الرئيسي منها هو تعطيل الحوار الوطني، وخدمة مآربها في إفشال تحقيق أهداف الثورة التونسية، الأمر الذي جعل تونس، على شفا الإفلاس، وصار شبح الدولة الفاشلة يحوم حولها، مهددا بانهيار ركائزها. فإذا كان إسقاط النظام الديكتاتوري السابق هو الهدف الذي وحد القوى السياسية في من أجل إنجاز الثورة، فإنه بعد ما تحقق هذا الهدف، انكشفت القوى السياسية على حقيقتها، إذ تبينت أكذوبة إيمان القوى الإسلامية ببناء الدولة المدنية، وباتت تدافع عن مرجعيتها الثابتة والمختلفة عن فصائل المعارضة الليبرالية والعلمانية، وعملت حركة النهضة التي وصلت إلى السلطة قبل سنتين على تطبيق مرجعيته الأيديولوجية الإسلامية على أرض الواقع بالتدرج، مع إصرار ها على أن تكون المعادلة صفرية، ورفضها الوصول لمعادلة الحل التوافقي، من خلالها عدم جدية حكومة علي العريض في محاربة الإرهاب، واستمرار مناورتها بشأن تقديم استقالة الحكومة، رغم أن الأحداث السياسة أثبتت فشلها، في ظل انقلاب موازين القوى الشعبية والسياسية لغير مصلحة حركة النهضة الإسلامية. وهناك إجماع لدى مكونات الشعب التونسي، أن "نموذج الإسلام الحداثي " -وفقا لتسمية -وفقا لتسمية الشيخ راشد الغنوشي، عندما كان في المعارضة قد وصل إلى مرحلة النهاية، بسبب تحالف حركة النهضة مع الجماعات الجهادية المتطرفة التي تمارس العنف ضد المجتمع، ووقوع حركة النهضة في فخ الابتزاز الديني من الجماعات السلفية التكفيرية طيلة العامين الماضيين من جهة، وبسبب سقوط مشروع جماعة الإخوان المسلمين في مصر، الذي يمثل ضربة موجعة لكل حركات الإسلام السياسي، وللفكرة المركزية التي تدور حولها هذه الحركات، من جهة أخرى. حركة النهضة أصبحت تخشى من أن يقود الحوار الوطني إلى تشكيل حكومة كفاءات وطنية، تكون من أولياتها محاربة الإرهاب الذي يقود تونس في الوقت الحاضر إلى المجهول، لاسيَّما في ظل تحالف صقور النهضة مع الإرهاب، واستهدافه قوات الأمن الوطني. كما أن حركة النهضة لا تريد إنجاز ما تبقى من عمر هذه المرحلة الانتقالية التي طالت أكثر من اللزوم، لاسيَّما إنجاز الدستور الديمقراطي التوافقي، وتحديد موعد الانتخابات القادمة،ومواجهة الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها البلاد، والعمل على بناء دولة القانون من خلال تفعيل قانون محاربة الإرهاب، وبناء أجهزة أمنية ذات طابع جمهوري، والقضاء على الأجهزة الموازية المغلغلة في وزارة الداخلية، والتي تحمي الإرهاب. لكل هذا باتت حركة النهضة تخاف من موافقتها على استقالة الحكومة، لأن برحيل هذه الحكومة الفاشلة، ستتشكل حكومة جديدة تقوم على سيادة القانون، وتعمل من أجل خدمة مصالح الشعب التونسي في تحقيق أهداف ثورته.، وأنقذ تونس من الإفلاس، لاسيَّما في ظل تدني الاقتصاد وصيحات الفزع التي يطلقها البنك المركزي بأن تونس أصبحت على حافة الإفلاس. إن تونس، عبر تاريخها الطويل، اتسمت بحالة من التآلف الفريد والانسجام، الذي لا مثيل له، جغرافيا وسكانيا وحضاريا، وذلك علي قاعدة من التسامح الديني الذي تميز به التونسي عبر تاريخه. لكن حركة النهضة بتحالفها مع الجماعات الجهادية التكفيرية المتطرفة التي لجأت إلى الإرهاب، شذت هذه القاعدة، فجعلت الشعب التونسي يفقد صبره من هذه الحكومة الفاشلة، ويطالب رحيلها. وما من شك في أن ميزة التآلف والانسجام هذه هي التي حفظت لتونس وحدتها الوطنية، وبلورت مكانتها الرائدة بين البلدان المتقدمة. وكلما ابتعدت تونس عن هذه القاعدة أو تراجعت عنها، زادت الأخطار والتحديات الداخلية والخارجية. إن المشهد الحاكم في تونس الآن هو مشهد الانقسام السياسي الحاد، ومنه تأتي الفرقة والفتنة التي ولدتها التيارات التكفيرية المحمية من قبل حكومة النهضة، ومنهما يولد الضعف لدى البلاد التونسية، وعنده تقف الثورة التونسية عاجزة عن تحقيق أهدافها، في بناء الدولة الديمقراطية، الكفيلة وحدها بحماية مصالح الشعب التونسي في الداخل والخارج، وحماية أمنها الوطني الذي أصبح عرضة لمخاطر الإرهاب.